الرئيس السنيورة : يجب انتخاب رئيس للجمهورية وليس فرض رئيس على الجمهورية

قال رئيس كتلة المستقبل النيابية الرئيس فؤاد السنيورة : نحن لا نؤمن ولا نقبل ولا نذعن للإرغام والتسلط الذي يمارسه البعض لتعطيل النظام الديمقراطي في لبنان، ولا نرضى بمحاولة تغييره بالقوة أو بالقهر أو بالتعجيز، وذلك ضد إرادة الغالبية الساحقة من اللبنانيين. المؤسف هو هذا التعطيل المستمر للانتخابات الرئاسية.
وقال الرئيس السنيورة: اليوم يقف الحزب حائلاً دون إجراء عملية الانتخاب الرئاسي ويحاول أن يفرض على اللبنانيين مرشحاً بعينه بالرغم من أن هذا المرشح غير قادر على تأمين الحد الادنى من الاصوات التي ينص عليها الدستور اللبناني لانتخاب رئيس الجمهورية.
أضاف الرئيس السنيورة: اكرر دعوتي لانتخاب رئيس جديد للجمهورية يحظى برضى ودعم الشعب اللبناني. رئيس يجمع الشعب اللبناني ولا يفرقه او يزيده تباعدا. ادعو لانتخاب رئيس للجمهورية، وليس لفرض رئيس على الجمهورية. وللتمسك بلبنان السيد الحر الديمقراطي المدني المستقل
كلام الرئيس السنيورة جاء عند السادسة من بعد ظهر اليوم في محاضرة له في جامعة بيروت العربية قاعة جمال عبد الناصر تحت عنوان: لبنان ومتغيرات المنطقة بحضور حشد من الطلاب والمسؤولين في الجامعة، وفي ما يلي نص المحاضرة :
يسعدني أن أتحدث إليكم في جامعة بيروت العربية ومن منطقة الطريق الجديدة، التي لطالما كانت تحتضن وماتزال الفكر العروبي المستنير والفكر الوطني المنفتح، كما احتضنت وماتزال هذه الجامعة منذ انطلاقتها الاولى في العام 1960. وأنه يسعدني أيضاً أن يكون حديثي من قاعة الرئيس جمال عبد الناصر رائد القومية العربية، الذي حرص على تأسيس هذه الجامعة لكي تصبح مركزاً متقدماً لتكوين المعرفة والعلم العصري للبنانيين ولأبناء الدول العربية القريبة من لبنان. فلقد تخرج من هذه الجامعة حتى الآن ما يقارب المائة وخمسة آلاف شاب وشابة، وفيها تعلَّم أيضاً الرئيس الشهيد رفيق الحريري واستند إليها في أُولى خطواته نحو النجاح والتطور.
السادة الكرام،
أيها الحفل الكريم،
لقد أتيت في مقدمتي على ذكر الرئيس جمال عبد الناصر في محاضرةٍ اخترتُ لها عنوان: "لبنان ومتغيرات المنطقة العربية". ويأتي حديثي إليكم ونحن على مسافة ساعات قليلة من انطلاق الانتخابات البلدية في الثامن من هذا الشهر، بدءًا بمدينة بيروت والبقاع والتي سوف تشمل كل مناطق لبنان. في هذا الصدد، فإني أود أن أشدد على ضرورة واهمية المشاركة الكثيفة في هذه الانتخابات ولاسيما في هذا الوقت الذي تعيش فيه المنطقة العربية متغيرات وتبدلات وتحولات كثيرة وكبيرة لم يسبق ان شهدت مثلها منطقتنا العربية إلاّ في الربع الأول من القرن الماضي. لهذه الأسباب، فإنّ اختيار عنوان لبنان ومتغيراتالمنطقة العربية يعتبر مناسباً جداً.
أيها الأصدقاء،
لقد كانت للرئيس جمال عبد الناصر نظرةٌ خاصةٌ إلى لبنان. فهو كان يدرك تماماً فرادة لبنان وأهمية موقعه ودوره في المنطقة، وكان يدرك أهمية خصوصية صيغته. لذلك فقد كان حريصاً على احترام هذه الخصوصية والمحافظة عليها، واحترام استقلال لبنان وسيادته ونظامه الديمقراطي. وهذا النظام هو الذي احتضن اتفاق الطائف الذي تحول إلى دستور للبنان بإرادة اللبنانيين، وهو الاتفاق الذي يستمر أيضاً بإرادة كثرتهم الكاثرة. لكن يبدو في المقابل أن هناك بعض الأطراف السياسية المؤثّرة التي تسعى وتعمل على التشكيك بهذا النظام وتدفع باتجاه تغييره أو تغيير قواعده رغماً عن إرادة هذه الكثرة الكاثرة من اللبنانيين.
السادة الكرام،
نحن لا نؤمن ولا نقبل ولا نذعن للإرغام والتسلط الذي يمارسه البعض لتعطيل النظام الديمقراطي في لبنان، ولا نرضى بمحاولة تغييره بالقوة أو بالقهر أو بالتعجيز، وذلك ضد إرادة الغالبية الساحقة من اللبنانيين. المؤسف هو هذا التعطيل المستمر للانتخابات الرئاسية، التي يريدها الشعب اللبناني حرصاً على استدامة نظامه الديمقراطي وحرصاً على استكمال وتفعيل مؤسساته الدستورية واستعادة فعالية دور دولته وهيبتها. إنّ أولئك المعطلون يقفون حائلاً دون إنهاء هذا الشغور في موقع الرئاسة. وهذا يجري على الرغم من أنّ المصلحة الحقيقية للبنانيين تقضي بإنجاز هذا الاستحقاق الدستوري وانتخاب الرئيس الذي يجب أن يمثل رمز وحدة الوطن ويسهر على احترام الدستور ويحافظ على استقلال لبنان ووحدة وسلامة أراضيه.
في هذا الشأن، فإنّ حزب الله يستقوي بإيران وبسلاحه وبما تتعرض له المنطقة العربية من صدمات قوية ومتلاحقة ومنها: استمرار وتفاقم المحنة الفلسطينية دون حل، وتراجع دور مصر في العالم العربي الذي أسهم في اختلال التوازن الاستراتيجي في المنطقة. وبعد ذلك في تفكيك الدولة العراقية والجيش العراقي في أعقاب الاجتياح الاميركي وما ترتب عليه من فتن داخلية، وما يجري منذ سنوات في سوريا وليبيا واليمن من حروب طاحنة، واتساع حجم ومدى التدخلات العسكرية والمخابراتية الايرانية في بعض الدول العربية. هذا إلى جانب العوامل التي تزيد من حدة التشدد والتطرف واستسهال اللجوء إلى العنف بالمنطقة العربية. ولقد فاقمت حدة هذه التداعيات على لبنان مشاركة حزب الله وبإيعازٍ من إيران في القتال الدائر في سوريا الى جانب النظام الحاكم الظالمِ والقاتلِ والمهجِّرِ لشعبه والمدمِّرِ لوطنه والرافض للإصلاح، وكذلك أيضاً تدخلاته في الحرب الدائرة في اليمن وفي مناطق أخرى من البلاد العربية.
اليوم يقف الحزب حائلاً دون إجراء عملية الانتخاب الرئاسي ويحاول أن يفرض على اللبنانيين مرشحاً بعينه بالرغم من أن هذا المرشح غير قادر على تأمين الحد الادنى من الاصوات التي ينص عليها الدستور اللبناني لانتخاب رئيس الجمهورية.
إنّ حزب الله بالتشارك مع الجنرال عون، يحولان دون اجتماع المجلس النيابي، خلافاً لما ينص عليه الدستور في المادة 74 القاضية بأن "يجتمع المجلس فوراً بحكم القانون" لانتخاب الرئيس. والحزب بذلك يعطل التئام المجلس في ممارسته غير الدستورية، محاولاً فرض استمرار التعطيل ووضع الورقة اللبنانية بيد إيران كوسيلةٍ للضغط على اللبنانيين والعرب عندما يؤون أوان المعالجات للأزمات في المنطقة. من أجل ذلك يعمل الحزب والتيار الوطني الحر على حرف انتباه اللبنانيين عن الموضوع الأساس وهو الموضوع الرئاسي. وهما لذلك يعملان على إقحام البلاد في جملة من الصراعات الجانبية والمناكفات السياسية والضغوط الأمنية والسياسية والمعيشية لإشغال اللبنانيين عن معالجة قضاياهم الأساسية، في الوقت الذي تتراجع فيه قدرات وإمكانات لبنان واللبنانيين على الصمود في وجه الصدمات والتحديات المتلاحقة والمخاطر المتعاظمة.
أيها الأصدقاء،
في عودة للنظر إلى الأوضاع العربية، يتبين لنا أنّ المنطقة العربية التواقة للمشاركة في حاضر العالم وتقدمه ما كانت محظوظة في القرن العشرين المنقضي. فمع ضعف الدولة العثمانية ثم سقوطها، جاء الاستعمار، وتعاظمت النضالات العربية من جانب المثقفين والسياسيين والجمهور من أجل الخلاص منه. وقد حدثت إنجازاتٌ كبرى في حقبة النضال ضد الاستعمار، إذ نشأت سلطاتٌ وطنيةٌ وشعبيةٌ ودستوريةٌ ومؤسساتٌ تمثيليةٌ حديثة. ثم جاءت ظروف الضيق والتضييق في الحرب العالمية الثانية مما أسهم بعدها في احتلال الصهاينة لفلسطين، وبعدها في اجهاض جهود النهوض والاستقلال والتنمية. ثم حدثت انقلابات العسكريين في الدول غير النفطية الذين بنوا شرعية وجودهم على ما أعلنوه من إرادة: أولاً في العمل على استرداد الأرض، وثانياً إلى إعادة الاعتبار للإنسان كمواطن، وثالثاً تحقيق الحريات العامة والخاصة وتعزيز المشاركة، ورابعاً التقدم الاقتصادي والاجتماعي، وخامساً الإسهام في مقولة ومجال الحياد الإيجابي والتطور المستقلّ.
لكنْ وخلال عدة عقود، ما استُرجعت الأرض بل خسر العرب أراضي جديدة، ولا استُردت الكرامة للإنسان العربي بشتى أشكالها، ولم يتحقق التقدم والمشاركة بالقدر المؤمل. فلقد تعرّض عدد من بلداننا العربية لنكسات ولعدة اجتياحات وانقلابات وصدامات وخلافات وفتن تميزت بالعنف، وأضعنا بذلك جملةً كبيرةً من القدرات والإمكانات والفرص نتيجة إساءة استعمال السلطة وسوء إدارة الحكم والشأن العام. كما فقدنا الحكومات التمثيلية، وانتُهكت الدساتير الحافظة للحريات العامة والخاصة ولحكم القانون، مع زيادة التهميش للمواطنين والحؤول بينهم وبين المشاركة في الحياة السياسية. كذلك تمادى التراجع في جهود التنمية المناطقية وفي معدلات النمو الاقتصادي وبالتالي في الأوضاع المعيشية بسبب سوء إدارة الحكم والشؤون العامة وتفشي الفساد من جهة وغياب المحاسبة وعدم التحسب للزيادات السكانية الكبيرة. وبالتالي زادت حدة التردي في جميع المؤشرات الإنسانية والتعليمية والصحية والاجتماعية. ومعها تردت المشاركة في الحياة العامة في هذه البلدان وزادت حدة اتساع الفجوة الاقتصادية بين المواطنين، وكذلك فجوة انحسار الثقة بين الدولة الوطنية ومواطنيها وزادت أيضاً حدة إدراك المواطنين لكل ذلك الانحدار.
أما في بعض الدول النفطية، فقد حدثت وفرةٌ لا يمكن اعتبارها كلها ممارسةً تنمويةً، بل كانت في بعضٍ منها ستّارةً لبعض الأخطاء، ولغياب السياسات أو عدم كفاية الجهود القادرة على إحداث التنويع المطلوب في اقتصادات تلك الدول وتخفيض مستويات اعتماد اقتصاداتها وموازناتها على النفط كمصدر أساسي وحيد. ذلك مما أبقى تلك الاقتصادات، والى حد كبير اقتصادات ريعية غير قادرة على التطور والتكيف مع المتغيرات والتحولات الجارية في الاقتصاد العالمي ولا على استيعاب التقلبات الحادة في أسعار النفط. وهي بالتالي لم تقم بما يكفي لتفعيل إداراتها وادارة الشأن العام بطريقة تتمكن معها الدولة من ترشيد إنفاقها من جهة، والتشارك مع القطاع الخاص من جهة ثانية، بحيث تصبح الدولة منظماً ومراقباً لحسن أداء القطاعات الاقتصادية المختلفة بدلاً من أن تظل مقدماً ومزوداً للخدمات التي يفترض أن يتولاها القطاع الخاص بكفاءة أفضل.
الآن ومع هذا الانخفاض الكبير الحاصل في أسعار النفط فقد بدأت تلك الاقتصادات تعاني من عدد من السلبيات نتيجة للاستمرار في الاعتماد المفرط على النفط وعوائده في الاقتصاد والمالية العامة. كما بدأت تدرك الحاجة للقيام بإصلاحات أساسية لمعالجة هذا الوضع المستجد. والدليل على ذلك، ما اعلنت عنه المملكة العربية السعودية مؤخراً حيث تم الاعلان عن رؤيتها للعام 2030 وهي رؤية طموحة وشجاعة وتأتي في التوقيت المناسب.
إنّ القاعدة الذهبية التي يجب اتباعها في مسألتي الاصلاح والنهوض الوطني هي ان ما يمكن التقدم على مسارات إصلاحه في زمن معين وبكلفة معقولة قد ترتفع كلفته وآلامه في وقت لاحق وقد تصبح محاولة الاصلاح عندها صعبة وربما غير ممكنة، اذا ما استمر تأجيلها. لذلك أود أن أغتنم فرصة وجودي على هذا المنبر لأشدد من جهة أولى على هذه القاعدة بأن الاصلاح يتم عندما تكون الدولة قادرة عليه وليس عندما تصبح مجبرة عليه. وكذلك لأدلل على أهمية ما جرى الإعلان عنه من رؤيةٍ إصلاحيةٍ تنمويةٍ في المملكة العربية السعودية لتجاوز مرحلة الإدمان النفطي كما أعلن عن ذلك ولي وليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان في تفاصيل الخطة الاقتصادية "رؤية السعودية 2030".
بشأن هذه التوجهات، فإنه قد أصبح مطلوباً استخلاص العبر من جوهر هذا الفكر الاصلاحي والنهضوي، وبالتالي تحديد الدروس العميقة من التجارب السابقة التي يجب الاستفادة منها من أجل تعميم ونشر هذا الفكر الجديد في كل الدول والمجتمعات والاقتصادات العربية. فالإصلاح في العالم العربي بات حاجة ضرورية وملحة لا يمكن تأجيلها بعد الآن.
لكم يحزّ في النفس الآن أن لبنان قد اضاع على نفسه فرصاً عديدة في العقدين الماضيين للقيام بالإصلاح والنهوض الضروريين لمعالجة هذا الكم الكبير والمتفاقم من المشكلات الوطنية والاجتماعية والاقتصادية والمالية والادارية التي تتراكم في الأفق بسبب استمرار حال المناكفات والخصام الداخلي والتراجع في دور الدولة والانحسار في سلطتها وهيبتها والاستتباع المتزايد لإداراتها لمصلحة الاحزاب والميليشيات وأصحاب النفوذ.
أيها الإخوة والأخوات،
خلال عقودٍ وعقود جرت في العديد من الدول العربية محاولات لم تكن في معظمها ناجحةً في تحقيق الوعود التي أُطلقت. وعلى ذلك أتى الحفاظ على الأمن في تلك الدول على حساب الحريات، وعيش الحدّ الأدنى على حساب المشاركة وعلى حساب النمو الاقتصادي المستدام والتنمية الاقتصادية والاجتماعية. كما جرت محاولات من أجل الحفاظ على استقرار الاقتصاد الكلي، ولكن ما بُذلت جهودٌ إصلاحيةٌ كافيةٌ على المستوى الذي تقتضيه الحاجة وتقتضيه الإرادةُ السياسية والاقتصادية القوية والمستنيرة في القطاعات الحيوية الإنتاجية لتحقيق النمو والنهوض المستدام، الذي يفترض أن يسهم في إيجاد فرص العمل الجديدة التي يحتاجها الاقتصاد وتحتاجها الأعداد الكبيرة والمتعاظمة المنضمة إلى أسواق العمل وبما يسهم في المحصلة في رفع مستوى المعيشة ونوعية عيش المواطنين. كما لم تُبذَلْ جهودٌ مثابرة كافية من أجل التقدم على مسار تحسين التعليم النوعي المتلائم مع التطورات العلمية والاقتصادية وفي اسواق العمل، أو في تحسين مستويات الرعاية الصحية. وقبل ذلك كلِّه وبعده غابت الحريات العامة وغابت الأحزاب السياسية الحقيقية وحيويات المجتمع المدني، وأُلْغي الشارع السياسي لصالح المزيد من الاستبداد وقمع الحريات. هذا في الوقت الذي كانت دول عديدة في الجوار القريب والبعيد تضج بالمتغيرات والتحولات والعمل الدؤوب والمثابر على التلاؤم مع التحولات الجديدة وتحقيق النهوض.
أيها السيدات والسادة،
الواقع أنه وخلال هذه العقود الماضية التي تعرضت فيه العديد من شعوبنا العربية للقهر الذي مارسه الاحتلال الإسرائيلي وقبله وخلاله الاحتلالُ الأجنبي والأنظمة الدكتاتورية المستبدة، قام عقدٌ اجتماعيٌّ وسياسي في عددٍ من الدول العربية كأمر واقع- حيث أن الإرغام لا يسمى عقداً- على أن تتولى الأنظمة الديكتاتورية والشمولية التي استمرت في الحكم طوال عدة عقود بتأمين الأمن والاستقرار السياسي لمواطنيها، برغم أنّ ذلك تمّ على حساب المشاركة والحريات العامة والديمقراطية. وكذلك أيضاً على أن تتولى تلك الأنظمة تأمين الاستقرار الماكرو-اقتصادي ضمن الإطار العام. ولكن أيضاً ويا للأسف، فإن ما تحقق من ذلك تم على حساب الإصلاحات البنيوية العميقة التي كانت تحتاجها تلك الدول العربية لتأمين نِسَبٍ أعلى من النمو والتنمية الاقتصادية والاجتماعية والمناطقية. كما أن ذلك لم يترافق أيضاً مع مستويات مقبولة من الإصلاحات البنيوية الضرورية لتحسين مستويات إدارة الحكم وقضايا ادارة الشأن العام بما يعزز الثقة بين الدولة والمواطنين ويعمم ثقافة الإنتاج ويرفع مستويات التمسك بقيم التنافسية الإيجابية والإنتاجية والشفافية والإفصاح والمحاسبة. كما تمَّ أيضاً على حساب المشاركة وعلى إعادة الاعتبار للجدارة والكفاءة وعلى حساب جهود محاربة الفساد والعمل على تقليصه والحد من انتشاره. كل تلك السياسات والجهود كانت مطلوبة من أجل اقدار تلك البلدان على تأمين مستويات التنمية والنمو الضروري الذي تحتاجه في مواجهة الزيادة الكبيرة والمتنامية في عدد السكان. وعلى ذلك، فقد تفاقمت مستويات البطالة وحملت معها أيضاً المزيد من الفساد المستشري وبالتالي المزيد من اليأس والإحباط وانسداد الأفق، وفي المحصلة القلق والغضب لدى قطاعات واسعة من المواطنين ولاسيما لدى الكثيرين من الشباب.
ولقد حصل هذا كله بالتزامن مع انعدام المبادرات الفعالة للخروج من المآزق الاقتصادية والاجتماعية والسياسية المتزايدة. وحصل أيضاً مع تزايد الوعي بضرورة المبادرة للتلاؤم مع تداعيات الثورة التكنولوجية وبالأخص على صعيد وسائل التواصل الاجتماعي. هذه الوسائل الجديدة وكما هو ظاهر للعيان قد كسرت حواجز الزمان والمكان، والدول والجماعات، والصمت والخوف من أمام الناس وشكّلت الأداة والمحفز الرئيسي لاندلاع شرارة الانتفاضات وكذلك الاضطراب في بعض البلدان العربية.
أيها الأصدقاء،
لقد ظنت معظم تلك الأنظمة أو هي قد تمنت بأن يؤدي ذلك الاستقرار الاقتصادي الهش إلى تشجيع الاستثمار في مشاريع قادرة على تعظيم مستويات التنمية ومعدلات النمو وفرص العمل الجديدة. ولكن الواقع هو أن ذلك الاستثمار المحقَّق ظلّ ضئيلاً وبالأخص في القطاعات الحيوية. كما أنّ الإصلاحات الحاصلة لم تقر التشريعات الضرورية لتحفيز الاستثمار وتسهيل إجراءاته وحمايته وتوسيع مداه وزيادة فعاليته أو لتعزيز الشفافية فيه أو زيادة مستويات الافصاح عنه وتقليص مستويات الفساد. كما لم تشتمل على ما هو ضروري لتعديل قوانين العمل وتحسين مستويات التعليم وتلاؤمه مع أسواق العمل ولا سيما لجهة اكساب الشباب المهارات اللازمة. تلك كانت كلها إصلاحات ضرورية لم تنفذ بالقدر المطلوب أو بالكفاءة المطلوبة. كذلك فإنها وفي كثير من الأحيان كانت تصطدم مباشرةً بمصالح قائمةٍ ومستقرةٍ لدى الأنظمة أو بالقائمين عليها والذين شكلوا مع أقربائهم وأنسبائهم طبقة جديدة تتمتع بالغنى الفاحش والثراء المتفلت على حساب الفعالية الإنتاجية والتنافسية الحقة.
من جهة أخرى، فقد اتسعت الهوة بين تلك المجموعات وبين مجتمعاتها وتزايد الاحساس بعدم العدالة لدى قطاعات واسعة من المواطنين في أكثر من بلد عربي. كما تضاعف التأثير السلبي لهذه الفجوة المتزايدة اتساعاً مع انحسار أو عدم قيام طبقة وسطى حقيقية جديدة كان من الممكن أن تشكل ربما صمام أمان للاستقرار الاجتماعي. وقد منع ذلك بدوره تطور القطاعات الاقتصادية الأخرى وبالأخص الصناعية والزراعية القادرة على خلق فرص عمل جديدة معتبرة. كما منع كذلك ايضاً تطور مجالات الاستفادة مما يتيحه الاقتصاد الحديث القائم على المعارف والمهارات المستندة إلى تحسين كاف ومستمر في مستويات التعليم وتلاؤم نوعيته وتنوعه مع حاجات تنمية تلك الجوانب من الاقتصادات ونموها المستدام.
لقد أدرك قسم كبير من أولئك الشباب أن كلفة ما تحقق من استقرار هشّ بجوانبه السياسية والأمنية والاقتصادية، كانت مرتفعةً جداً على صعيد الخسارة الواقعة في مجالات الحريات والمشاركة وتحقيق العدالة واسترجاع الكرامة بشتى أشكالها. كما أدرك أولئك الشباب أيضاً أن هذا الاستقرار الهشّ لم يؤد في الواقع إلى اختراقاتٍ تُذكرُ على صعيد إيجاد فرص العمل الجديدة ولا على صعيد تحسين مستويات ادارة الشأن العام أو في جهود محاربة الفقر والفساد أو في تقليص بؤر الإقصاء وعمليات التهميش والمنع من المشاركة في أكثر من بلد عربي.وفي المحصلة لم يتحقق تقدم يذكر على صعيد استعادة الثقة في التعاون الواجب بين الدول وأنظمتها من جهة، ومجتمعاتها ومواطنيها من جهة أخرى.
ولقد عبَّرت مبادرة بائع خضار متجول إلى إحراق نفسه في تونس بدقة عن انتهاء صلاحية هذا العقد الاجتماعي والسياسي القائم بحكم الواقع في العقدين الأخيرين في اكثر من بلد عربي.
وجاءت حركات الربيع العربي تعبيراً عن رفض الشعوب العربية لهذا الواقع المرير ورغبتها بإعادة صياغة العقد الاجتماعي والسياسي القائم بحكم الواقع والذي ارتكزت عليه بعض الأنظمة العربية على مدى العقود الثلاثة الفائتة.
وعلى ذلك دخل العالم العربي في مرحلة مضطربة بنتيجة قيام بعض الأنظمة العربية بالتصدي لتلك الانتفاضات والعمل على تشويهها بعسكرتها عبر اللجوء إلى العنف المفرط وذلك بدلاً من التحاور معها كما فعلت المغرب. ذلك مما أدى في المحصلة إلى حلولِ أوضاع فوضويةٍ تشبه الحروب الأهلية في عدد من البلدان العربية مثلما حصل في ليبيا وفي سوريا مثلاً.
وعلى ذلك فقد شهدنا تبخر الاستقرار بجوانبه السياسية والأمنية والاقتصادية من دون أن يؤدي ذلك إلى مكاسب على صعيد الإصلاحات السياسية أو الاقتصادية البنيوية.
فمعدلات النمو في العالم العربي ككل في الفترة ما بين 2011 و2015 انخفضت من معدل 5% قبل بدء الانتفاضات إلى معدل 2.5% بعدها. وزاد العجز في الموازين التجارية وفي الموازنات العامة ليبلغ حدود الـ15% من الناتج المحلي بعد أن كان بحدود الخمسة بالمائة قبلها. كما ارتفع التضخم من 5% إلى 10% وتدهورت الاحتياطات بالعملات الأجنبية، ما أثر على قيمة العديد من العملات الوطنية، وهو ما أثر في الأساس على القيمة الشرائية للطبقات ذات الدخل المحدود وعلى مستويات ونوعية العيش لديها. وقد زاد ذلك من حدة الضيق والتململ والشعور بانسداد الأفق وعدم الرضى والحاجة إلى التغيير والانتفاضة على الأوضاع السائدة.
أيها السيدات والسادة،
لقد ترافق كل ذلك مع تحولات كبرى على صعيد اختلاط الأمور السياسية بالدينية ولجوء بعض المتشددين والمتطرفين إلى العنف الذي بدأ يتخذ أبعاداً إرهابيةً خطيرة أسهم في مفاقمتها عدد من الأنظمة وقبلها استمرار تراكُمُ المشكلات السياسية والاجتماعية على مدى عدة عقود. هذه المشكلات وفي مقدمها قضية فلسطين بقيت دون حلول حقيقية عادلة ودائمة. ذلك مما أسهم في زيادة حدة انسداد الافق وتراجع الثقة بأنظمة الحكم والمسؤولين فيها وكذلك في تراجع الثقة بالمستقبل لدى المواطنين ولاسيما لدى الفئات الشابة. كذلك أيضاً كان لزيادة حدة التدخلاتِ الاجنبيةِ والإقليمية أثر سلبي كبير بكونها عملت على إثارة الفتن الداخلية وزعزعة النسيج المجتمعي في أكثر من بلد عربي. وقد دفع ذلك أعداداً من الأفراد والجماعات إلى الانكفاء أو التقوقع أو الانغلاق الموصل إلى تعميم وتبرير ثقافة رفض الآخر يدفعهم على هذا النحو فكرٌ مريضٌ ترعرع بدايةً في رحم تجربة أفغانستان المدمرة وبعدها في رحم الأنظمة التي مارست مختلف صنوف الاقصاء داخل شعوبها. وهذه كلها شكّلت تحولات ساعدت على تغذيتها مناهج التعليم الديني غير المتدبر حقاً للقرآن ولتعاليم الإسلام السمحة. ولقد أسهم ذلك كله في تخريب عقول بعض الشباب الذين أعطوا لنفسهم ولمن تأثر بهم صلاحية التفتيش في ضمائر المؤمنين أو في اللجوء إلى تكفيرهم. لقد أدى ذلك كله إلى لجوء البعض لاستعمال العنف المتفلت من اي رادع ديني أو أخلاقي أو وطني وبالتالي إلى وقوع البعض منهم في مستنقع الإرهاب.
لقد كان من نتيجة ذلك دخول المنطقة العربية في مرحلة بالغة الخطورة، حيث فقدت تلك البلدان الاستقرار الأمني دون أن تكسب في الحريات، وخسرت الاستقرار الاقتصادي والسياسي من دون أن تكسب في الإصلاح البنيوي والمؤسسي، وازدادت حدة التشدد والتعصب الديني واللجوء إلى العنف والارهاب بدلاً من السعي إلى تشجيع إِعمالِ العقلِ وفتح الآفاق للانفتاح والاعتدال والتسامح.
أيها الإخوة والأخوات،
لقد مرّ جمهورنا خلال السنوات الخمس الماضية بدروسٍ قاسية. فشبابنا وجمهورنا أراد التغيير ويريده. لكنّ أحداث السنوات الماضية بعثت على مخاوف كبيرة. فقد قوبل الكثيرون من مريدي التغيير بالإقصاء والتهميش وبالعنف المفرط. وقد أدى ذلك وفي المحصلة إلى انهيار كيان الدولة في كل من سورية والعراق وليبيا واليمن والى تراجع خطير في سلطة الدولة وهيبتها في لبنان.
ولقد كان من نتيجة تلك الصدمات الخطيرة والمتلاحقة أن أصبح الجمهور العربي أمام تخوفّين: الأول أنّ مطالب التغيير انقلبت بنتائجها إلى الضد. وفي الوقت ذاته فإنّ العودة للأوضاع السابقة أصبحت غير ممكنة وغير معقولة. والثاني، أنّ انهيار الدولة بالمطلق لا يترك بدائل للعمل عليها، وقد يقود للاستكانة وإلى تعميق حال من اليأس المؤدي إلى التطرف واستسهال اللجوء إلى العنف. ولذلك فقد أصبح على السياسيين والمثقفين والناشطين في مسائل وقضايا الشأن العام في عالمنا العربي أن يضعوا في اعتبارهم هذين الأمرين الواقعيين، وهم يحاولون التفكير بالمستقبل أو التخطيط له. حيث لا يصح ولا يجوز أن نبقى أسرى الموقف الراهن المتردي للجهتين، ولا بد من تغيير إيجابي إذا صحّ التعبير بتفكيرٍ جديدٍ وبديل متنور، يصحح بوصلة توجهاتنا في العالم العربي ويعيدنا إلى التركيز على القضايا الأساسية بديلاً عن الضياع في متاهات الخلافات والمناكفات التي تحرفنا عما ينبغي التأكيد عليه. وبناء على ذلك في ضرورة العودة إلى التركيز على الأمور المبدأية والعملية التي تضعنا بالفعل على طريق الخروج من هذه المآزق المتكاثرة نحو المستقبل الآخر الذي تنفتح فيه الآفاق لشعوبنا العربية ولاسيما لأولئك الشباب مستفيدين من هول هذه التجارب الأليمة التي مازالت تقودنا إلى مزيد من الانحدار.
أيها السيدات والسادة،
فيما خصّ مواجهة التيارات المتطرفة، فإنه قد أصبح واضحاً ومحتماً في آن أنه لا بد من إنقاذ الإسلام واسترجاعه ممن يحاولون اختطافه، وبالتالي إنقاذ العالم العربي من الوقوع في محن صراع الأصوليات القاتلة. ويكون ذلك من خلال التصدي للحركات الإرهابية المتطرفة والمبادرة إلى القيام بجهود مصممة لخوض غمار الإصلاح الديني الذي لم يعد ترفاً نختاره أو لا نختاره، نباشره أو لا نباشره. ولذلك فإنه ينبغي المسارعة الى إعداد البرامج الهادفة لإصلاح التعليم الديني الذي نقدمه لناشئتنا ولشبابنا. كذلك فإنه ينبغي أن يتوجه هذا الاصلاح أيضاً إلى رجال الدين الذين عليهم أن يكونوا رواداً في الدعوة للانفتاح والتطوير والتأكيد على أهمية الاعتدال والانفتاح والتسامح والحرص والحفاظ على احترام حقوق الإنسان وحرياته العامة والخاصة وفي الحض على التمسك بقيم العلم والتعلم والعمل والإنتاج المفيد. إنّ هناك حاجةً ماسةً لتشجيع التفكير النقدي في مجتمعاتنا، من أجل تغيير الرؤية للعالم لدى الأجيال القادمة، خاصةً بعد عقودٍ من استتباع الأنظمة العسكرية والأمنية للمؤسسات الدينية ومن قمع للحريات. لقد آن الأوان ليُسهمَ المسلمون على اختلاف جنسياتهم في مهمة الإصلاح الديني الإسلامي بإثراء المنظور الديني وتعميقه عبر إعادة الاعتبار للعلم واكتساب المعرفة وإنتاجها وتأكيد المطالبة بتوفير واحترام حقوق الإنسان والانفتاح على العالم على قاعدة أُخوّةِ البشر وتعارُفهم وتعاوُنهم في المشتركات والمصالح الكثيرة والكبيرة التي تجمعُهُم في الحاضر والمستقبل.تبرز هنا بعض المبادرات الإصلاحية الهامة مثل الإعلانات الأربعة للأزهر في مصر وإعلان جمعية المقاصد في بيروت حول الحريات الدينية واعلان مراكش في المغرب حول حقوق الأقليات الدينية في المجتمعات ذات الأكثرية المسلمة. انه ينبغي اخذ هذه الإعلانات على محمل الجد ودعمها على نطاق واسع، بما يُحفِّزُ على القيام بالمزيد من المبادرات المفيدة والمحاولات البناءة لاعتماد أفكارها وبرامجها.
أيها الاصدقاء،
أما فيما خص التقدم على مسارات عملية البناء المستقبلية، فإني أبدأ بالقول أنه لا بُدَّ من التوافق من أجل التوصل إلى وضع عقد اجتماعي وسياسي جديد، تنجزه المجتمعات المدنية والسلطات الحكومية معاً مع الشباب وبمشاركتهم القوية من أجل استعادة الثقة بين هذه المجتمعات المدنية والسلطات الحكومية. فلقد أصبح واضحاً أنه لا حاجة ولا فائدة ولا مصلحة ولا من الجائز اللجوء إلى العنف من أي طرفٍ. لأنّ العنف يؤدي للمزيد من التدمير وإلى ضياع المزيد من الفرص والمقدرات في الحاضر والمستقبل. إنها شراكةٌ جديدة تتأسس على عقدٍ مستأنَف، كما يقول ابن خلدون، اي أنه تجديدٌ لتراثٍ عريقٍ من التضامن والتجانُس والمصالح المتبادلة والاعتماد المتبادَل المستند إلى معرفة وثيقة بالدواخل العربية. إنه بناءٌ للإنسان الفرد، وللإنسان الجماعة، تبرز فيه قياداتٌ مستنيرة مؤمنة بالإصلاح الحقيقي، وملتزمةٌ بأن تكون عُرضة للمحاسبة على أساس الاداء ومن خلال ممارسة صحيحة وصادقة للأصول الديمقراطية تسهم في التداول السلمي للسلطة.
إنّ هذا التدهور الكبير الحاصل الذي نعاني منه على جميع الصُعُد لن يتغير حتى يقوم عقد اجتماعي وسياسي جديد شفاف قائم على استحقاق للثقة المتبادلة وعلى ممارسة درجات راقية من الافصاح الذي يحدد للمواطن ما عليه أن يقدم من تضحياتٍ وما سيحصل عليه في المقابل من مكاسب في المدى المتوسط.
بنظري فإنّ العناصر الأساسية التي لا بد أن يتضمنها هذا العقد الاجتماعي الجديد هي التالية:
أولاً:التأكيد على استعادة إيمانِنا بالعروبة المستنيرة كرابطة ثقافية ورابطة حضارية وثيقة تقوم على الإيمان بالمصلحة العربية المستندة إلى فكرة التكامل والاعتماد المتبادل فيما بين دولها وشعوبها. وبالتالي وجوب ترجمة ذلك إلى برامج ومشاريع محددة. لقد أدى انحسار مفهوم العروبة على مدى العقود الماضية إلى أن طفت على السطح مجموعة كبيرة من المسائل والمشكلات تتعلق بالانتماءات والتي شجعت بدورها على الانقسام داخل الشعوب العربية على أساس هويات وانتماءات طائفية ومذهبية وعرقية أسهمت في تعميقها صدمات وممارسات داخلية عنفية وغير ديمقراطية وأخرى ناتجة عن تدخلات خارجية.لقد أصبحت الحاجة ماسة لاستعادة فكرة العروبة الجامعة التي تجمعُ بين العرب وتشجع كل معاني وقيم التوسط والاعتدال والانفتاح والحوار والتسامح والحرية والديمقراطية. العروبة التي تؤمن بمشروعية التعدد ضمن احترام الإطار الوطني للدول التي ترعى حق الاختلاف وترفض العنف ونزعات الإقصاء والتكفير أو التفتيش في ضمائر المؤمنين.العروبةُ الحريصةُ على احترام التنوع والآخر.العروبةُ المؤمنةُ بالدولة المدنية المعترفة بحقوق المواطنين المتساوين والتي تحترم حقوق الإنسان على أساس الاعتراف بحقوق وواجبات المواطنة دون اي تمييز بينهم على أساس عرقي أو ديني أو مذهبي أو مناطقي.
ثانياً:التأكيد على أنه لا يجوز ولا يمكن أن يكون الخيار الأوحد المتاح لمجتمعاتنا العربية هو الوقوع في لجّة ومحنة الاختيار بين الأنظمة الشمولية والأنظمة الدينية أو التي تدَّعي ذلك. لقد دلت تجربتنا المريرة على مدى العقود الماضية أنه كان مفروضاً علينا في حينها ان نختار بين الشمولية والتطرف الديني وهما بالفعل وجهان لعملة واحدة. ولقد أصبح واجباً بل ضرورياً سحب تلك وهذه العملة من التداول والولوج إلى فضاء الدولة المدنية.إنّ الظن بأن التصدي للتشدد ومحاربة الإرهاب يكون باستيراد او دعم مجموعات أُخرى من المتشددين والإرهابيين، او باللجوء الى الشرذمة والتقسيم لبعض المجتمعات أو الكيانات العربية خطيئة كبرى ولا ينتج عنها إلاّ المزيد من الصراعات والمزيد من التشدد والإرهاب.
لقد أثبت الربيع العربي أنه وبالرغم من الإخفاقات والتعثرات المختلفة الحاصلة، فإنّ الشعوب العربية وبالأخص الشباب من بينهم يتوقون إلى أن يعيشوا في مجتمعات مدنية حديثة معتدلة بعيدة عن الشمولية والاستبداد وبعيداً عن الغلو والتطرف والمزايدات يستطيعون فيها الإسهام والمشاركة في صناعة مستقبلهم.
إنّ الاعتدال العربي والكثرة الكاثرة من المسلمين main streamهم وحدهم القادرون على هزيمة التطرف والإرهاب في صفوف العرب و المسلمين.
إنّ الدولة المدنية المحتضنة لجميع مكوناتها دون اقصاء أو تهميش، هي التي تحترم تعددية الأديان، لا الدولة العسكرية ولا الدولة الدينية. فالدولة المدنية تبقى العنصر الأول والأساس في هذا العقد الاجتماعي والسياسي الجديد.
ثالثاً:التأكيد على أن حقوق الأفراد والحريات العامة والخاصة كما حقوق الجماعات لا يضمنها إلا الدستور مع العودة إلى التأكيد على وجوب احترامه والالتزام الكامل به وبتطبيقه.
إنّ الأنظمة الشمولية وأجهزتها العسكرية والمخابراتية ماتزال تمارس الابتزاز السياسي والأمني على الأقليات وذلك بهدف إيهامها بأنها قادرةٌ على حمايتها وهو الأمر الذي أثبت فشله وعدم ديمومته.
فالواقع أن فاقد الشيء لا يعطيه. هذه الأنظمة لا تؤمن بالتعددية، ولا بالمشاركة ولا بالحريات الفردية ولا بالحريات العامة. وعلى هذا فهي لا يمكن أن تمنح الحرية الحقيقية للجماعات سواء أكانت تشكل أكثرياتٍ أم أقليات.
كذلك الأمر فإنّ اللجوء إلى ما يسمى بتحالف الأقليات بهدف حمايتها ما هو إلاّ وصفة موصوفة وسريعة إلى إشعال حروب ونزاعات لا تنتهي ولا تؤدي في المحصلة إلى أي نتيجة بل هي على الأرجح التي تقود إلى مخاطر حقيقية ووجودية على الأقليات كما على الأكثريات.
إن التعددية وهي أحد أبرز ميزات هذا الشرق، هي بالفعل نعمة ويجب أن تكون مصدر غنى لمجتمعاتنا العربية بدلاً من أن تصبح وسيلة لتبرير التباعد والتفرق والانقسام.
للأسف لقد حولت بعض الأنظمة العربية نعمة التنوع إلى نقمة وعلى هذا فإنّ العنصر الثالث والأساسي في أي عقد اجتماعي جديد يجب ان يكون في ضمان وترسيخ حقوق جميع مكونات مجتمعاتنا العربية واعتبارهم مواطنين متساوين في الحقوق والواجبات في إطار دستوري واضح يعزز الهوية الوطنية ويحترم القانون ويحترم وحدة الوطن وبشكل غير ملتبس ومن خلال مؤسسات فاعلة وضامنة ملتزمة باحترام الدساتير والقوانين التي أنشأتها. وتحترم بالتأكيد قواعد الدولة المتكاملة ذات السيادة الموحدة.
رابعاً:التأكيد على وجوب خوض غمار الإصلاح المؤسسي وذلك من خلال الحضّ على اعتماد الفكر المؤسسي والعمل على قيام المؤسسات وتفعيل عملها وضمان قدرتها على العمل بتعاون واحترام وتناغم بين بعضها بعضاً. ولكن أيضاً ضمان قدرتها على مراقبة بعضها بعضاً (Checks and Balances).
فالدساتير الضامنة لحريات الأفراد والجماعات وكذلك الضامنة لحقوق الملكية ولغيرها من الأسس والقواعد المهمة لقيام الدولة المدنية الحديثة العصرية والمتلائمة مع العالم، لا تكفي وحدها اذا لم تترافق مع مؤسسات قائمة وفاعلة تضمن تطبيقها في إطار من الشفافية والإفصاح.
والتجربة العالمية على صعيد التقدم الاقتصادي والانمائي واضحة لا لَبس فيها لناحية أهمية الإصلاح المؤسسي بل استمرار حيوية ومبادرات هذا الاصلاح المؤسسي لتحقيق الاستقرار السياسي والوطني والتقدم والنمو الاقتصادي.
وفي هذا الاطار، لا بد من التأكيد على وجوب تفعيل المجالس النيابية التي تقوم بمهمتي التشريع والرقابة وكذلك تعزيز المشاركة من خلال المجالس المحلية المنتخبة.
أما على صعيد السلطة التنفيذية وهي المخولة بالحفاظ على الإطار الاقتصادي والسياسي العام، فلا بد من إطلاق ورش أعمال على صعيد الإصلاح الإداري بما يعيد الاعتبار للجدارة والكفاءة والمحاسبة على أساس البرامج ومستويات الاداء ومدى تحقيق المنجزات.
وأخيراً وليس آخراً وعلى صعيد الإصلاح المؤسسي في وجوب قيام سلطة قضائية وأخرى دستورية مستقلة وكفوءة وفعّالة تضمن الحقوق والواجبات وتضمن حسن تطبيق هذا العقد الاجتماعي والسياسي الجديد وتواكب ورش إعادة الإعمار والاستثمار لتحقيق نسب افضل من التنمية والنمو المستدام والانتاجية والتنافسية الاقتصادية وبالتالي تحقيق زيادات محسوسة في فرص العمل الجديدة. وبالتالي في تحقيق تحسين في مستويات الثقة بين المواطنين ودولهم.
خامساً:التأكيد على وجوب تلازم مسارات النمو والتنمية الاقتصادية مع الاستقرار الماكرو- اقتصادي والإصلاح البنيوي. إنّ هناك حاجةً ماسةً للقيام بجهود كبرى لتوسيع وتعزيز البنى التحتية التي تحتاجها تلك المجتمعات واقتصاداتها والتي تحتاج فعلاً إلى ما يشبه خططاً تنمويةً على غرار مشروع مارشال في أوروبا من ضمن إطار سياسة التكامل العربية القائمة على الاعتماد المتبادل وعلى نظام المصلحة العربية واحترام قواعد الأمن القومي العربي. ذلك بما يمكن من إحداث النقلة النوعية وبالأخص على صعيد قطاعات المواصلات والاتصالات والطاقة والمياه.
إنّ هذه الأركان الخمسة وهي: العروبة المستنيرة، والدولة المدنية، وحماية حقوق الأفراد والجماعات التي يجب تكريسها في الدستور، وقيام المؤسسات الفاعلة، وتلازم جهود التنمية وتعزيز النمو الاقتصادي مع تعزيز الاستقرار الاقتصادي العام بالمواكبة مع الإصلاح البنيوي، هي الأسس لتكوين عقد اجتماعي وسياسي جديد يواكب توق شعوبنا العربية لمجتمعات تتأمَّن لها الحرية والكرامة والعدالة بما يساعدها على استرجاع حقوقها المغتصبة وحرياتها المهدورة. ولهذا نرى أنه على أي سلطة حالية او مستقبلية في عالمنا العربي ان تضع خارطة طريق تسمح بصياغة هذا العقد ضمن إطار زمني محدد. عندئذٍ يمكن أن ينفتح أفق استعادة الأمل في المستقبل لدى مواطنينا وخاصة لدى الشباب وأيضاً تتعزز الثقة لديهم بالحكومات على أساس الاداء. وبالتالي عندها وعندها فقط يكون مقبولاً وممكناً أن يُطلَبَ من هذه الشعوب التي عانت الكثير حتى الآن أن تقدم المزيد من التضحيات المطلوبة ولكن بشكل عادل بين مكوناتها وعلى قدر استطاعة هذه المكونات على المدى القصير والمتوسط بما يؤدي إلى تحقيق الأهداف المرجوة في استمرار وتعزيز مسيرة الإصلاح والنهوض.
أيها السيدات والسادة،
إنها سنواتٌ صعبةٌ وصعبةٌ جداً، صعد فيها الإرهاب وسقط فيها الملايين من العرب صرعى وجرحى ومعوقين، وهُجِّر عشراتُ الملايين أيضاً عن ديارهم، وطال التدمير الإنساني والمادي اكثر من بلد عربي وطالنا نحن في لبنان في اكثر من اتجاه سياسي وامني وانساني وعمراني. وما بقيت جهةٌ إقليمية أو دولية إلاّ تدخلت في شؤون بلداننا العربية.
لكنْ دعوني أقول لكم هنا بصدق وبصراحة:
ما هي السنوات الخمس أو العشر في حياة الأُمَم عندما تتوفر لها الارادة الحية. نحن أمةٌ عريقةٌ صنعت حضاراتٍ ودولاً ونحن قادرون على استعادة النهوض. ولا يكون ذلك إلاّ من خلال موقف عربي موحد وحازم وفكر عربي جديد ومبادر وخلاق ينهي حال التشرذم والانقسام والتشاطر على بعضنا، وينهي حال الانصياع الى منطقة الارادات الخارجية والمتعارضة ويستعيد إرادة العمل على التآلف فيما بينها ضمن اطار المصلحة العربية الواحدة. فكر عربي جديد وممارسة جديدة لإدارة الدول والشأن العام تعيد للعرب احترامهم بداية لأنفسهم ويعيد اليهم احترام العالم لهم ولقضاياهم، ويسهم بالتالي في إخراج الأمة من حال التقاعس والتواكل ويضع حداً لحال الانحدار ويمكنهم من بناء توازن استراتيجي عربي في المنطقة والعالم يسمح لهم باستعادة حقوقهم المغتصبة في فلسطين وغير فلسطين.
لنتذكر دوماً بأن النجاح يمكن أن نستولده من رحم الفشل والمشكلات التي ابْتُلينا بها أو ساهمنا نحن في إلحاقها بأنفسنا، وان التألق يمكن أن يحصل من عتمة الظلام وان الريادة العربية ممكنة التحقق. هذا ممكن حقاً إذا نحن فعلاً أردنا ذلك.
السادة الكرام،
قبل التوجه الى ختام هذه المقاربة للقضايا اللبنانية والعربية، أود أن أعودَ الى عنوان اجتماعنا الاساسي وهو "لبنان ومتغيرات المنطقة العربية". لقد كان لبنان سباقاً في المنطقة في تجربة بناء الديمقراطية من جهة وفي تجربة الحروب الاهلية المدمرة في الوقت ذاته. من جهة أخرى. فقد كُتب الدستور اللبناني وتم تطويره وفق مراحل التجربة اللبنانية منذ الاستقلال إلى أن تبينت صعوبة استمرار هذه الصيغة التي انفجرت في العام 1975. ودخل لبنان بعدها في مرحلة الحروب الاهلية المتناسلة الى ان اكتشف الشعب اللبناني انه لا طائل من الاستمرار في هذه الحروب ولابد في النهاية من التوقف والتقاط الانفاس وابتداع التسوية. وهذا ما كان وما نجحنا في تحقيقه بمساعدة وقناعة عربية ودولية. ولقد نجح لبنان في ابتداع تسوية اتفاق الطائف، والتي تشكَّل في عمقها اعترافٌ متبادلٌ بين كل الاطراف اللبنانية بعضها ببعضها الآخر وبجوهر هذه التسوية الذي تقوم وتنطلق من انه ليس بإمكان طرف بمفرده ان يحكم لبنان ويتحكم به، وبالتالي لا مناص من التشارك الايجابي الراغب في العمل معاً من أجل مواجهة كل القضايا والمشكلات بطريقة هادفة وبناءة وفي العمل على تطوير وتعميق فكرة العيش الواحد.
واليوم وبالرغم من كل التجارب الصعبة التي مررنا ونمر بها اود ان اعود للتأكيد على التمسك بروح التسوية التي اقامها اتفاق الطائف والتي انتجت دستورا نحترمه ونتمسك به ونتمسك بتطبيقه. اليوم اكثر من اي وقت مضى نحن في لبنان لا خشبة خلاص لنا الا التمسك بالدولة القادرة والعادلة ومؤسساتها. الدولة المستقلة السيدة على كامل أرضها والتي تتسع للجميع بعيدا عن لغة التسلط والارغام والسيطرة المسلحة. الدولة المدنية الديمقراطية المؤهلة لمواجهة التطرف والارهاب، عند كل الاطراف وفي كل الاتجاهات.
من على هذا المنبر الكريم، وهذه الجامعة العريقة، وهذه المنطقة العزيزة اكرر دعوتي لانتخاب رئيس جديد للجمهورية يحظى برضى ودعم الشعب اللبناني. رئيس يجمع الشعب اللبناني ولا يفرقه او يزيده تباعدا. ادعو لانتخاب رئيس للجمهورية، وليس لفرض رئيس على الجمهورية. وللتمسك بلبنان السيد الحر الديمقراطي المدني المستقل. اكرر دعوتي لتعميم روح وانموذج التسوية اللبنانية الحقة في اتفاق الطائف. لاستلهامها أو للاستناد إليها في تسوية النزاعات والحروب الأهلية العربية الراهنة، من اليمن، مروراً بليبيا، وصولاً إلى العراق وسوريا.
إخواني وأحبائي،
عشتم وعاش لبنان وعاشت جامعة بيروت العربية منارة للعلم والمعرفة والعروبة النيرة المنفتحة المعترفة بكل التلاوين العربية، لكي نبقى للبنان، ويبقى لنا سيداً عزيزاً حراً مستقلاً متألقاً.
والسلام عليكم ورحمة الله.