جردة حساب سنة في مسيرة تخبط حكومة كلنا للعمل
نشرت جريدتي المستقبل واللواء مقالة للدكتور مازن سويد تحت عنوان :
جردة حساب سنة في مسيرة تخبط حكومة كلنا للعمل
--------------
تمويل المحكمة بالتهريب بعد تناسي أزمة شهود الزور
وفاتورة موازنة تفتقد لشمولية الإنفاق وتعاني من عدم كفاية الموارد
أولاً: اجتماع الحكومة على تقويض إنجازات المرحلة الماضية:
تألفت حكومة "كلنا للعمل" واجتمع عقد أعضاؤها مع رئيسهم على مجموعة من المواقف السلبية من الحكومات والمرحلة الماضية من أجل تحقيق الأغراض السياسية الكيدية لمعظم مكوناتها وهي التي لم تتفق يوماً على رؤية واحدة لإدارة الشأن العام بل اتفقت على تقويض إنجازات حكومات المرحلة الماضية وضرب مشروعيتها وبرامجها الإنمائية والتطويرية وتعطيل الرؤية في كيفية تعزيز دور لبنان في العالم العربي والعالم.
فمنذ صيف العام 2010، بدأ حزب الله بحملة مركزة للنيل من شرعية المحكمة الدولية وصدقيتها فاتحاً ملف ما سُمِيَ "شهود الزور" على مصراعيه وجاعلاً منه محور معارضته وذلك لتبرير سعيه إلى إسقاط حكومة الرئيس سعد الحريري، وذلك بهدف أحكام سيطرة الحزب على الدولة اللبنانية بمفاصلها كافة.
أما التيار الوطني الحرّ، فهو كان وعلى مدى السنوات الماضية قد تصدّر من جانب آخر معركة محاربة النهج الاقتصادي المتبع في لبنان، والذي سماه بالحريرية والتي حاول إلباسها كل أسباب وتبعات الفشل في إصلاح الدولة متنكراً لما تمّ إنجازه من تقدم وإصلاح عقب ما كانت عليه الحال في لبنان في كافة قطاعاته وأوضاعه الاقتصادية والمالية والاجتماعية والمعيشية والإدارية مطلع العام 1993، ومنكراً الجهود المضنية للإصلاح التي لطالما سعي إلى تحقيقها الرئيس الشهيد رفيق الحريري وبعده الرئيس فؤاد السنيورة من خلال المشاريع الإصلاحية المنفذة منها وكذلك المقترحة على مدى أكثر من عشر سنوات ولاسيما ما طرح منها في مؤتمري باريس-IIوباريس-III، وهي المشاريع التي جرى إفشال العديد منها بشكل مستمر ومصمم من قبل القوى التي يتحالف التيار معها اليوم.
ولقد بنى التيار الوطني الحر معركته ضد المرحلة الماضية على أساس عناوين أساسية انطلقت من إدانة النهج الاقتصادي القائم على تشجيع التدفقات والاستثمارات المالية الخارجية إلى لبنان والتي تؤدي بنظره إلى هجرة الكفاءات اللبنانية نحو الخارج، وتسهم في تدني القدرات التنافسية للاقتصاد الوطني، وصولاً به إلى إدانة السياسات الاقتصادية والمالية المتبعة والقائمة على تعزيز الاستقرار وحيث قام بإطلاق عناوين مختلفة ظاهرها نشدان الإصلاح وغايتها تجريم مرحلة سابقة وفريق من اللبنانيين. وفي هذا السبيل جرى مؤخراً رفع عناوين وشعارات من مثل، شمولية الموازنة العامة وقانونية الإنفاق الإضافي (الذي تمّ على مدى السنوات 2006- 2010) ومدى ملاءمة السياسة المالية والضريبية للواقع الاقتصادي اللبناني، الخ...
على هذه الخلفية سعت هذه الحكومة للرئيس ميقاتي وأعضاؤها ولاسيما الوزراء الذين ينتمون للتيار الوطني الحر إلى إطلاق جملة من العناوين الجاذبة للانتباه بحيث وقعت في وهده تضخيم توقعات الإصلاح لدى المواطنين على مختلف الأصعدة، فيما لا تتوفر لديها النية والالتزام الحقيقي لخوض غمار الإصلاح. ولقد تبين وبنتيجة ذلك كله ومن خلال التجربة والنتائج التي خرجت بها هذه الحكومة حتى الآن، أن القيادة من المقعد الخلفي تختلف جذرياً عن القيادة من المقعد الأمامي. وهي بذلك وبدون أن تدري كانت تعمل على إيقاع نفسها في وضع يصعب عليها الخروج منه بعد ذلك وأظهرت في كل شأن من الشؤون أنها غير جديرة ولا قادرة على تولي مسؤولية إدارة الشأن العام.
لذلك وبعد سنة كاملة على نيل الحكومة الثقة، يحق لنا أن نتوقف امام جردة حساب لنقارن بين أقوال الفريق الحاكم وأفعاله، وبين ما تم تحقيقه بالأرقام والمؤشرات مقارنة بالوعود التي أطلقت والعواصف التي أثيرت والمعارك الوهمية التي جرى خوضها دون طائل. ولكن، وقبل الغوص في مضمار محاسبة الحكومة، من المهم أيضاً أن نراجع المواقف التي جرى إطلاقها من قبل مكوناتها في السنة التي سبقت تأليف هذه الحكومة أي من حزيران 2010 وحتى حزيران 2011 ليتبين لنا أيضاً الكلفة الاقتصادية الباهظة التي تحمّلها الاقتصاد والمكلف اللبناني للتوتير السياسي الذي افتعله أركان الحكومة الحالية والذي كان من نتيجته الإطاحة بحكومة الرئيس سعد الحريري وبعدها للكلفة الباهظة تحملها ويتحملها الاقتصاد اللبناني على أكثر من صعيد نتيجة للخلاف المستحكم بين اهل الحكم أنفسهم وأيضاً بسبب الأداء المتدني للحكومة وأعضائها.
ثانياً: الإعداد لإسقاط حكومة الرئيس الحريري والتداعيات الاقتصادية الحاصلة:
لقد بدأ حزب الله هجومه بالتصعيد الكلامي في صيف 2010 وذلك بوتيرة مرتفعة عبر إطلالات متتالية لأمينه العام تناول فيها موضوع المحكمة الدولية وعدم شرعيتها وعدم صدقيتها وبالأخص على صعيد إطلاق بالونات ملف شهود الزور.
طبعاً مما لا شك فيه أنه ولأي توتير سياسي مفتعل كلفته وهي كبيرة بالنسبة لبلدٍ كلبنان يرتكز اقتصاده بشكل شبه كبير على عامل الثقة. وفي هذا الصدد يمكن ان نورد هنا بعض المؤشرات الاقتصادية التي تدل على النتائج الاقتصادية التي تأتت عن الاجواء السياسية العاصفة الذي أثيرت ابتداء من صيف العام 2010 والتي أدت إلى إسقاط حكومة الوحدة الوطنية وتعميق حالة اللا استقرار الى ان تم تشكيل الحكومة الحالية في منتصف العام 2011 وحيث أحكم حزب الله سيطرته عليها بشكل مباشر وعبر حلفائه من وزراء التيار الوطني الحر.
ومن الأرقام الممكن الارتكاز إليها في هذا الصدد مؤشر الحركة الاقتصادية الصادر عن مصرف لبنان (BDL coincident indicator) والذي يعده المصرف المركزي على أساس شهري مرتكزاً على مجموعة من المؤشرات كحركة المقاصة وحركة المسافرين وتفريغ البضائع في مرفأ بيروت وغيرها من المؤشرات. وهو بكونه مؤشر يُعدّ على أساس شهري وليس سنوي فإنه يتيح للباحثين قياس التداعيات الاقتصادية لأية أحداث سياسية أو أمنية محددة.
كان هذا المؤشر قد سجل ارتفاعاً قياسياً في الأعوام 2008 و2009 وحتى منتصف العام 2010 إذ حقق نمواً بنسبة 15% بين حزيران 2009 وحزيران 2010.
أما الذي جرى بعد إطلاق حملة التوتير السياسي في صيف العام 2010 وحتى تشكيل حكومة "كلنا للوطن كلنا للعمل"، فقد انخفض معدل النمو في مؤشر الحركة الاقتصادية لهذا المؤشر من 15% إلى أقل من 5% وهذا ما يفسر جزئياً انخفاض معدل النمو في العام 2011 إلى نسبة لا تتجاوز 1.5% وذلك بالمقارنة مع المعدلات التي سادت في السنوات السابقة بحسب الأرقام الرسمية الصادرة عن صندوق النقد الدولي والتي كانت في المعدل في حدود 8.5% سنوياً على مدى السنوات الأربعة السابقة.
ويدل هذا المؤشر وبشكل واضح ايضاً على أن التحول الذي طرأ على مستويات الحركة الاقتصادية من حالة نمو إلى حالة تباطؤ قد بدأ قبل اندلاع الأزمة السورية التي يحاول البعض في الفريق الحاكم تحميلها المسؤولية بكونها هي التي تسببت في تدهور الحركة الاقتصادية.
الواقع أن توتير الأجواء السياسية في البلاد من قبل حزب الله وحلفائه بدءاً من صيف العام 2010 ادى الى زعزعة الثقة وبشكل كبير لدى المستثمرين وهو ما نلمسه ليس فقط على صعيد الاقتصاد الحقيقي فحسب بل ما يتخطاه إلى مؤشرات الوضع المصرفي والنقدي. تجدر الاشارة في هذا الصدد انه لطالما اكتتبت المصارف في سندات الخزينة اللبنانية بصورة طبيعية. ولقد زادت تلك المصارف حصتها في سندات الخزينة اللبنانية بين حزيران 2009 وحزيران 2010 بنسبة 23.1%. وبالتالي فقد أدى توتير الأوضاع السياسية منذ صيف 2010 إلى أن تمتنع المصارف تدريجياً عن الاكتتاب في سندات الخزينة لاعتقادها أن معدلات الفائدة المحصلة أصبحت لا تتناسب مع زيادة مستويات المخاطرة. وعلى هذا فقد تدنى حجم محفظة المصارف من سندات الخزينة اللبنانية بنسبة 12.5% بين صيف 2010 وصيف 2011 مما دفع مصرف لبنان الى التدخل في السوق شارياً، كما وإلى زيادة حصته من سندات الخزينة بنسبة 53% في الفترة ذاتها لتبلغ 15.796 مليار ليرة لبنانية.
من المعروف أن هذا النوع من التمويل هو من اسوأ انواع التمويل التضخمي وهو الذي اسهم في ارتفاع نسبة التضخم من 3.5% (معدل الأعوام 2008- 2010) إلى 5% في العام 2011. وعلى هذا الاساس تم عكس المسار السابق الذي تم فيه خفض الفوائد الذي بدأ مع نجاح مؤتمر باريس-II. وبناء على ذلك فقد بدأت معدلات الفوائد التي تدفعها الخزينة ابتداء من الفصل الأول من العام 2012 بالارتفاع مما أصبح يرتب كلفة إضافية على الخزينة بنتيجة زيادة كلفة خدمة الدين العام. ولقد ترافق ذلك كله مع انخفاض بنسبة 23% في وتيرة ارتفاع الودائع في القطاع المصرفي. ولقد طرأ ذلك مع تقلص في ميزان المدفوعات الذي انخفض من فائض وقدرة 7.5 مليار دولار أميركي تحقّقت بين حزيران 2009 وأيار 2010 إلى فائض لا يتعدى مليار دولار أميركي تحقّقت بين حزيران 2010 وأيار 2011.
نستنتج مما تقدم أن الأوضاع الاقتصادية وتأثيراتها على صعيد الاقتصاد الحقيقي وعلى صعيد الوضع المصرفي والنقدي بدأت تتأثر سلباً بالتصعيد والتوتير السياسي والكلامي الذي أطلقه حزب الله على خلفية مسألة شهود الزور وتمويل المحكمة الدولية وان كان الغرض الحقيقي كما تبين بعد ذلك كان بهدف تحقيق أمر آخر.
ثالثاً: هل تحققت الأهداف التي رفعها حزب الله:
هنا لا بد من التوقف هنيهة لطرح السؤال التالي: هل استطاع حزب الله تحقيق الأهداف التي رفعها على هذا الصعيد؟ وهل حققت له خطواته ما كان يبتغيه أم كان بغرض تحقيق عملية الامساك بالحكومة.
لقد مرت اكثر من سنة على حكم فريق 8 آذار من خلال هذه الحكومة ولم يتم أي إجراء على صعيد ملف شهود الزور. بل أكثر من ذلك اضطرت الحكومة إلى الالتزام بالمحكمة الدولية وذلك من خلال تجديد بروتوكول التعاون واضطرارها الى الالتزام بتمويلها مرتين أكانت راضية بذلك او مرغمة! نقول هذا مع الإقرار بأن هذا الالتزام بتمويل المحكمة مازال قاصراً عن إدراك مستوى التعاون المطلوب مع المحكمة الدولية ولاسيما فيما يتعلق بتسليم المتهمين الأربعة. إلا أنه وبالرغم من ذلك فقد نجح الحزب في تحقيق الهدف غير المعلن وهو الأهم، أي الامساك بالمفاصل السياسية الأساسية للحكومة مما مكنه من التقدم على مسار تحقيق الاهداف السياسية التي حددها لنفسه..
من جهة اخرى فإن السؤال المُحِقّ الذي يسأله المواطن اللبناني الذي تقلصت من أمامه مشاريع الاستثمار وتضاءلت معدلات النمو وفرص العمل يتلخص بما يلي: ماذا حققت هذه العواصف والرعود والتهديدات التي أطلقتها قوى المعارضة آنذاك وعلى مدى قرابة سنة من صيف العام 2010 وحتى منتصف العام 2011 على صعيد تحقيق ما تمّ رفعه من أهداف، سوى أنها مكّنت حزب الله وحلفاؤه وبفضل القمصان السود من الانقلاب على نتائج الانتخابات النيابية في العام 2009 وبالتالي الإمساك بالسلطة؟ ولكن بأية كلفة تم تحقيق هذه السيطرة؟ وبالتالي هنا لا بدّ من طرح السؤال لماذا وعلى أي أساس أثيرت أصلاً الاعتراضات بشأن تمويل المحكمة إذا كان معلوماً أن لبنان لن يستطيع التفلت من التزاماته الدولية فيما خصّ المحكمة الدولية وهو العضو المؤسس للأمم المتحدة والذي لطالما نادى باحترام قراراتها؟
رابعاً: الوعود التي أطلقتها الحكومة في البيان الوزاري:
ننتقل إلى فترة انطلاق هذه الحكومة اي من منتصف العام 2010 وبالأخص النظر الى ما وعدت به الحكومة في بيانها الوزاري والتي ألمحت فيه إلى رغبتها بمواجهة التوجهات الاقتصادية التي كانت معتمدة من قبل الحكومات السابقة قاصدة بذلك توجهات الحريرية الاقتصادية.
لقد انبرى وزراء التيار الوطني الحر بتصدر هذا التوجه بعد أن كانوا قد شنوا هجومهم الكبير خلال ترؤس الرئيس سعد الحريري على حكومة الوحدة الوطنية. وعلى سبيل المثال وما أن بادرت وزيرة المال السابقة ريا الحسن الى طرح مشروع موازنة العام 2010 على مجلس الوزراء للنقاش، حتى طرح الوزير شربل نحاس ورقة وصفها حينها التيار الوطني الحر وحلفاؤه وإعلامه "بالرؤية التاريخية" وهي ورقة اعتبرت أن السياسة المتبعة في لبنان على مدى العشرين سنة الماضية بشقيها المالي والنقدي على الأخص، قد أدت إلى التشجيع على تراكم الرساميل الوافدة وهو الأمر الذي أدى إلى فقدان التنافسية الاقتصادية (بسبب غلاء كلفة الإنتاج) وإلى زيادة هجرة الكفاءات الى خارج لبنان، حسب ما ادّعى الوزير نحاس.
علينا الاعتراف أن هذه الورقة التي كنا قد شرحنا موقفنا وانتقاداتنا لها في مقالات سابقة قد حَرَفت جلسات مناقشة الموازنة عن مسارها الطبيعي قبل أن يعود ويقرها مجلس الوزراء، ولكن ليتم من جديد إدخال النقاش في حلقة مفرغة وخصوصاً عندما تولى رئيس لجنة المال والموازنة إبراهيم كنعان تحوير النقاش الاقتصادي إلى مواضيع تتعلق بشمولية الموازنة وأخرى تتعلق بقطع الحسابات·وبحسابات المهمة وصولاً إلى ما أثير وقيل عن ملف الإنفاق غير القانوني أي الإنفاق خارج القاعدة الاثني عشرية والذي بلغ حوالي 11 مليار دولار بين الأعوام 2006 و2009 وبعد ذلك بحوالي 11 مليار دولار على مدى السنين 2010-2011. وقد أدى ذلك كله إلى عدم إقرار أي من الموازنات المقدمة 2006- 2010 تمهيداً لعرضها على الهيئة العامة لمجلس النواب لإقرارها.
لم تكن هذه الطروحات التي رفعها الوزراء العونيون جدّية فيما خصّ الموازنات العامة وهم في حقيقة الامر هدفوا إلى تأجيل طرح الموازنة لتفادي وضع بند تمويل المحكمة في صلب بنود مشروع الموازنة. وهم بذلك يتحملون مسؤولية الفرص الضائعة للإصلاح والتنمية على صعيد القطاعات الحيوية من كهرباء وطاقة ونقل وتضييع فرص اقرار الإنفاق الاستثماري الوارد في مشروع موازنة العام 2010 ومسؤولية عدم تحريك عجلة الاقتصاد الذي كان الرئيس سعد الحريري وقبله الرئيس فؤاد السنيورة قد دفع به لتكبير طاقات الاقتصاد الإنتاجية وتوسيع قدرته الاستيعابية؟ لذلك فقد تم صرف النظر عن احالة مشروع الموازنة للعام 2010 علماً أن حكومات الرئيس السنيورة والحريري كانت قد أحالت مشاريع قوانين الموازنات للأعوام 2006-2010 إلى مجلس النواب والتي لم يصار إلى إحالتها إلى الهيئة العامة للمجلس.
خامساً: الأخطاء الجسيمة المرتكبة في إعداد مراسيم غلاء المعيشة ومشاريع الموازنة العامة:
انصرفت الحكومة بعد ذلك للعمل على مسارين: مسار إعداد الموازنة العامة للعام 2011 ومسار تصحيح الأجور والرواتب.
وفي هذين المسارين ضاعت الحكومة وضاع معها اللبنانيون الذين كانوا يتوقعون منها، وكان يفترض بها، أن تعمل مباشرة على إعداد مشروع موازنة العام 2011 فور تسلمها المسؤولية. إلا أنها لم تقم بأي جهد في سبيل إعداد مشروع هذه الموازنة وربما فضلت العمل على إعداد مشروع موازنة العام 2012 بدلاً من ذلك وفي ذلك خطأ دستوري وقانوني.
من جهة اخرى فقد عملت الحكومة على اعداد مراسيم إعطاء بدل غلاء المعيشة للقطاع الخاص وعلى أساس منه وعدت بأنها ستعمد بعد ذلك الى اعداد مشروع قانون لإعطاء بدل غلاء معيشة للعاملين في القطاع العام بشكل مدروس وحاذق وبمستويات تكون بقدرة كل من القطاع الخاص والخزينة والاقتصاد على تحملها. إلاّ أنه ويا للأسف وفي هذا الصدد ارتكبت الحكومة عدة أخطاء أدت وكما ذكرنا إلى عدم المباشرة في اعداد مشروع موازنة العام 2011 وهي قد انشغلت في اعداد مرسوم غلاء المعيشة للقطاع الخاص وطرحته لثلاث مرات متتالية على مجلس الشورى الذي رفض المشروعين الأول والثاني وتمت الموافقة في نهاية الأمر على المشرع الثالث.
أما في موضوع مشروع الموازنة للعام 2012، فقد أعد الوزير محمد الصفدي مشروع موازنة العام 2012 والتي بالغ فيها في تقدير أرقام النمو وزاد بالتالي من حجم الإنفاق بشكل غير مدروس الأمر الذي أدى إلى توقع عجز في الميزان الأولي من مشروع الموازنة وزيادة كبيرة في العجز الإجمالي ونسبته إلى الناتج المحلي. هذا العجز في الميزان الأولي كان ليكون الأول منذ أن استطاع الرئيس الراحل رفيق الحريري عكس هذا المسار من خلال إنجازات مؤتمر باريس-II، وهو ما تمت المحافظة على هذا الإنجاز في حكومتي الرئيس السنيورة . وقد استدعى هذا العجز المتوقع في مشروع موازنة الحكومة الحالية أن يوجه صندوق النقد الدولي تحذيراً شديد اللهجة (على غير عادته منذ نجاح مؤتمر باريس-II) منبهاً الحكومة، التي بدت غائبة عن ما يجري حولها في العالم، وفي الأخص في أوروبا، التي تعاني فيها دول منطقة اليورو من خطر الانهيارات الاقتصادية نتيجة العجوزات في الميزان الأولي في بلدان الجنوب الأوروبي ومنها اليونان وإيطاليا! هذا الأمر اضطر الرئيس ميقاتي إلى سحب مشروع الموازنة بناء على وعد قطعه لصندوق النقد الدولي وعمل على إعادة مشروع الموازنة إلى وزارة المالية لاعادة دراسته.
على مسار آخر، كانت الحكومة تسجل فشلاً تلو الآخر على الصعد الاقتصادية والحياتية والمعيشية. ففي موضوع الكهرباء تدنت التغذية منذ تولي الحكومة المسؤولية حتى اليوم- أي وبعد مرور سنة من تأليفها. وكانت هذه الحكومة ووزير الطاقة فيها قد عمدا إلى إهمال مشروع الإصلاح لقطاع الكهرباء الذي قدمته حكومة الرئيس فؤاد السنيورة في مؤتمر باريس-IIIونالت على أساسه دعماً غير مسبوق للبنان. ولقد تفاقم الوضع على هذا الصعيد بسبب ان وزراء التيار الوطني الحر الذين تناوبوا على هذه الوزارة منذ العام 2008 أي على مدى أربع سنوات قد اضاعوها في امور لم تؤد الى نتيجة حاسمة وهي سنوات كانت كفيلة لو جرى السير بتلك الخطة الى إنجاز معمل إضافي لانتاج الكهرباء وبطاقة 500 ميغاوات وذلك بتمويل من الصناديق العربية والدولية وكذلك عدم إنجاز عملية إعادة تأهيل معملي الذوق والجية وأيضاً من خلال التمويل الميسر من قبل الصناديق العربية والدولية وهو بالمناسبة التمويل الذي تم التأكيد على عرضه على لبنان في مطلع العام 2009 من قبل السيد عبد اللطيف الحمد رئيس الصندوق العربي للتنمية ورفضه وزير التيار الوطني الحر آنذاك آلان طابوريان. تجدر الإشارة إلى أن الوزير طابوريان كان يصر على أن تكون المعامل الجديدة للإنتاج تعتمد على الفحم الحجري، كما أصرّ أيضاً على عدم الموافقة على إعادة تأهيل معملي الذوق والجية وهو الأمر الذي يعاني منه لبنان من تبعاته اليوم الاقتصادية والمالية.
أما في الحكومة الحالية، ومع أن مشروع القانون لقطاع الكهرباء وكما أعده وزير الطاقة جبران باسيل الذي خلا من أية تفاصيل تحدد سياسة القطاع وبوضوح لناحية تحديد مصادر الطاقة (اللقيم) لانتاج الكهرباء وغياب واضح لماهية سياسة التوزيع وكيفية إصلاح وإعادة تأهيل القطاع حيث غابت عن الخطة أية أفكار عن اعادة تأهيل المعامل وكيفية تعزيز التحصيل ومحاربة الهدر التقني وغير التقني والموافقة الصريحة على مبدأ اعتماد التمويل الميسر وكيفية الاستعامة بالقطاع الخاص وكفية الالتزام بالقانون 462 ولاسيما لجهة تأليف الهيئة الناظمة لقطاع الكهرباء. إلاّ أنه ورغم كل هذه العيوب، فقد تم إقرار القانون بعد تعديله جزئياً بما يأخذ بعين الاعتبار ببعض الملاحظات التي اقترحتها المعارضة.
بالرغم مما تقدم فقد استمر الوزير الحالي مصراً على تمويل انشاء المعامل الجديدة من الخزينة مع أن ذلك ليس بمقدور الخزينة وهو مازال يرفض وحتى اليوم التمويل المعروض من خلال الصناديق التي تضمن من خلال ما تعتمده من أساليب بناءة معايير الشفافية والالتزام بالمعايير الدولية في ما خص عمليات التلزيم فضلاً عن أن هذه الصناديق تتولى مراجعة ومتابعة ومراقبة عملية التنفيذ حتى بدء تشغيله. كما أن وزير الطاقة ما يزال على موقفه الرافض لتطبيق القانون 462 الصادر حول تنظيم قطاع الكهرباء ولاسيما فيما فيما خصّ تعيين الهيئة الناظمة للقطاع.
ومع تجاهلها المريب لكل هذه المسائل الهامة، فقد انصرفت الحكومة ووزارة الطاقة بالتحديد إلى العمل على موضوع استئجار البواخر لتأمين العجز في توليد الطاقة عند البدء في إعادة تأهيل المعامل، وبالأخص في موسم الصيف عندما يكون الطلب في ذروته. عندها بدأت فوراً تفوح رائحة السمسرات والاتهامات المتبادلة بين أعضاء حكومة: "كلنا للعمل" فيما خصّ هذه العملية.
سادساً: النسخة الثانية من مشروع الموازنة العامة للعام 2012:
في هذا الوقت، كان يتم طرح "النسخة الثانية من مشروع الموازنة للعام 2012 والتي جرى إضافة العديد من الضرائب وبالأخص على القطاعين اللذان يشكلان عادة الرافعة للاقتصاد في لبنان وهما قطاعي البناء والمصارف، واللذان يتعرضان حالياً للتباطؤ وتحديداً منذ بدء الفترة التي تولى فيها إدارة البلاد بالكامل فريق 8 آذار من خلال الحكومة الحالية.
في ضوء ما تقدم تبين الأرقام والمؤشرات بوضوح انه منذ أن نالت هذه الحكومة الثقة في حزيران 2011 وحتى أيار 2012 فإن الودائع في المصارف زادت بحوالي 7.4 مليار د.أ. وهو ما يشكل انخفاضاً بنسبة 28.5% عن مجموع الزيادة المحققة بين حزيران 2010 وأيار 2011. اما القروض إلى القطاع الخاص في الفترة ذاتها فقد زادت بحوالي 3.5 مليار دولار أميركي أي بانخفاض نسبته 23.6% عن الزيادة المحققة بين حزيران 2010 وأيار 2011. أما رخص البناء فزادت في الفترة ذاتها بحوالي 15 مليون متر مربع مسجلة أيضاً انخفاضاً بنسبة 13.3% عن الزيادة المحققة بين حزيران 2010 وأيار 2011.
إن السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح كيف يمكن لوزارة المالية وهذه الحكومة أن تسيرا باقتراح فرض ضرائب إضافية على قطاعي البناء والمصارف في الوقت الذي يشهد فيه هذان القطاعان تدهوراً كبيراً بسبب التردي الحاصل في الاوضاع الاقتصادية والسياسية والأمنية والتي تسببت بها والى حد كبير هذه الحكومة والتي أدت إلى انخفاض واضح في مستوى الثقة من قبل المستثمرين والمودعين!
والواقع أن زيادة الضرائب على هذين القطاعين يشكل محاولة بائسة من قبل الحكومة لتغطية السياسات الإرضائية والزيادات في الإنفاق والمقدرة بأكثر من سبعة آلاف مليار ليرة (الفرق بين الإنفاق الفعلي في العام 2011 ومشروع الموازنة في النسخة الثانية). تجدر الإشارة إلى أن هذه الزيادات لا تتضمن أيضاً كلفة الالتزامات التي قطعتها الحكومة على نفسها وبشكل ارضائي وغير مدروس وفير متبصر ولا رصين مع مختلف القطاعات لمنح زيادات ضخمة في الرواتب والتعويضات من دون أن تتأكد من قدرتها على تأمين المصادر المالية اللازمة أو حتى ضمان التمويل اللازم للاحتياجات المالية الناجمة عن ذلك. وكل ذلك يتم الالتزام به وحتى من دون تحقيق أي جهد إصلاحي لاستعمال الموارد المتاحة في السبيل الأمثل وبما ينعكس زيادة حقيقية في القدرة الإنتاجية للقطاع المعني والاقتصاد الوطني ككل.
ولكن بعد الصرخة المدوية التي اطلقتها الهيئات الاقتصادية واستمرار توارد المؤشرات السلبية التي تبين تدهوراً اضافياً في الوضع الاقتصادي، ومنها نذكر على سبيل المثال، الانخفاض المستمر في مؤشر مصرف لبنان للحركة الاقتصادية إلى 3% (من حوالي 15% في فترة الحكومة السابقة) وتحول ميزان المدفوعات إلى عجز متراكم بحوالي 2 مليار دولار أميركي (من حزيران 2011 حتى أيار 2012) مقارنة مع فوائض مرتفعة في السنوات السابقة، بادرت الحكومة إلى التعبير عن رغبتها باعادة النظر بالمشروع الثاني للموازنة.
على هذا، فقد تم سحب مشروع الموازنة مجدداً من التداول وعمدت الحكومة إلى إقرار سلفة خزينة تغطي الإنفاق الزائد في مجلس الوزراء وعلى أن يتم تحضير وإقرار نسخة ثالثة معدلة من مشروع الموازنة.
سابعاً: النسخة الثالثة من مشروع الموازنة العامة للعام 2012:
فيما انشغلت الحكومة بالعمل على إعداد النسخة الثالثة من مشروع الموازنة العامة للعام 2012 بادرت إلى إقرار سلفة خزينة لتغطية كامل الإنفاق الإضافي المرتقب في العام 2012 والذي يتخطى حدود ما تتيحه القاعدة الاثني عشرية.
فيما خص السلفة التي اقرتها الحكومة لتلبية حاجاتها للانفاق الذي يتخطى الحدود التي تفرضها القاعدة الاثني عشرية لا بد من الإشارة إلى أنّ الإنفاق من خلال سلف خزينة يشكل خرقاً للقوانين والأصول المتبعة. صحيح أن الحكومات السابقة التي تخطت على مدى 4 سنوات الإنفاق المتاح على أساس القاعدة الاثني عشرية بـ11 مليار دولار أميركي وهو الأمر الذي أثيرت من حوله العواصف والاحتجاجات، إلاّ أن تلك الحكومات كانت تنفق على أساس موازنات تم إقرارها على الأقل في مجلس الوزراء بينما فشلت هذه الحكومة في اعداد مشروع موازنة العام 2011. تجدر الاشارة الى ان الحكومة الحالية كانت قد تخطت وبسنة واحدة أي خلال العام 2011 القاعدة الاثني عشرية بحوالي 6 مليار دولار أميركي وهي كانت تنفق وعلى أساس سلف خزينة وهو الأسلوب المتاح فقط للمؤسسات العامة وليس للإدارات العامة!
لا بدّ من التوضيح هنا أن جميع الإنفاق الإضافي الحاصل في السنوات 2006- 2011 والذي يتخطى حدود ما تتيحه القاعدة الاثني العشرية للإنفاق على أساس آخر موازنة قد أقرت وهي موازنة العام 2005 هو إنفاق غير قانوني.
والسبب في ذلك عدم إقرار الموازنات التي أعدتها الحكومات الماضية والعائدة للأعوام 2006- 2010 وعدم مبادرة الحكومة الحالية إلى إعداد مشروع موازنة العام 2011. تجدر الإشارة إلى أنه جرى مخراً الإقرار المبدأي بأن حال السنوات 2006- 2011 لجهة الإنفاق الإضافي في حال واحدة ويقتضي بسبب ذلك النظر في تعديل السقوف الانفاقية لهذه السنوات بطريقة واحدة لها جميعاً.
على حال، عادت الحكومة بنسخة ثالثة للموازنة تم إقرارها مؤخراً في مجلس الوزراء وهي تشكل مهزلة حقيقية وبالأخص في ضوء ما إنهال على اللبنانيين من قبل فريق التيار الوطني الحر ونوابه من دروس ومحاضرات عن شفافية الموازنة وشموليتها وبشكل استثنائي من رئيس لجنة المال والموازنة على مدى عامين كاملين.
فبين نار الالتزامات التي تعجّلت الحكومة في ترتيبها على الخزينة وذلك قبل توفير التمويل اللازم، وبين نار تدهور الوضع الاقتصادي وعدم القدرة على فرض ضرائب جديدة، ارتأت الحكومة مؤخراً إقرار "نصف موازنة"- هي أشبه بفاتورة تخلو من الرؤية والتوجه الاقتصادي الواضح والمصارحة مع الرأي العام. وهي قد هرّبت الإنفاق المتأتي عن مشروع السلسلة الجديدة للرتب والرواتب إلى مشروع قانون آخر ضمنته نظرياً أيضاً الزيادات التي تقترحها على الضرائب مع علمها انها ستكون عاجزة عن فرض اية ضرائب ذات قيمة في المرحلة الحاضرة. وهي أيضاً لن تكون قادرة على ان تضمن هذا المشروع أية إصلاحات تؤدي الى زيادة حقيقية في الإنتاجية في إدارات ومؤسسات القطاع العام او تؤدي الى تعزيز فرص تطبيق ديمقراطية الجدارة فيه.
هذا الأمر يذكرنا بالمناسبة بتجربة الرئيس إميل لحود أبان تسلمه رئاسة الجمهورية حيث أجهض من مشروع قانون سلسلة الرتب والرواتب (الذي عمل الرئيس الحريري والسنيورة على إعداده لسنوات)، أجهض منه كل المواد الإصلاحية واصر فقط على اقرار الزيادات على الرواتب والأجور، على أساس أن يتم التقدم لاحقاً بمشروع متكامل يكون المدماك الأول في بناء دولة "القانون والمؤسسات". للأسف فإنّ ذلك الأمر الذي لم يحصل بل ان ما حققه هو عملية اجهاض للإصلاح الهام الذي كان يتضمنه مشروع القانون الذي وصل إلى أن أدرج على جدول أعمال الهيئة العامة لمجلس النواب وجرى حذفها منه في آخر لحظة، وحيث أقرت الزيادات على الرواتب والأجور دون أي زيادة في الانتاجية وهو ما ادى بالتالي إلى الإسهام في تضخم العجز وبالتالي الدين العام وإلى تردي الإنتاجية من جانب آخر.
والسؤال البديهي: كيف توصلت الحكومة الميقاتية إلى هذا الحل المنقوص في الموازنة أو الفاتورة المبتورة؟
يقول وزير الاقتصاد (وزير المالية الرديف) أن الحكومة اعتمدت قواعد ذهبية يبدو أنه تم اكتشافها دون الإعلام عنها بين فترة سحب النسخة الثانية من الموازنة وإعداد النسخة الثالثة- وهذا الأمر يدل حقيقة على ضعف المعرفة في الاقتصاد لدى الفريق الاقتصادي الحكومي. فالقاعدة الذهبية الوحيدة في إعداد الموازنات هو أن تكون الموازنة أداة لسياسة اقتصادية واضحة وليس العكس. أي أن تصبح السياسة الاقتصادية أداة لإنتاج أرقام محددة في الموازنة! ولمزيد من الشرح: فإن الحكومة الواقعة بين نارين، والمضطربة نتيجة تحذيرات صندوق النقد الدولي من جهة والهيئات الاقتصادية من جهة أخرى، المفتقرة للرؤية الاقتصادية المتكاملة أو للمشروع الاقتصادي، هذه الحكومة انطلقت من هدف بسيط هو ضرورة المحافظة على نسبة العجز إلى الناتج المحلي لتكون متساوية مع العجز المحقق في السنوات السابقة. أي بمعنى آخر فلقد تحوَّل هدف الحكومة في إعداد وطرح الموازنة من تطبيق سياسة اقتصادية ومالية تكون الموازنة أداتها، إلى محاولة تغطية نفسها ونفي أي مسؤولية عنها في زيادة العجز وتدهور نسبته إلى الناتج وزيادة الدين العام!
ولكي تتم المحافظة على نسبة محددة (ولو وهمية) للعجز إلى الناتج المحلي في مشروع الموازنة تم "تهريب المواد المرتبطة بزيادة الإنفاق وزيادة الضرائب إلى مشروع قانون آخر من خارج الموازنة. وهو الأمر الذي مازال موضوع اخذ ورد والذي يتحمل في طياته مخاطر كثيرة على صعيد الاستقرار.
هكذا، وبعد المحاضرات والدروس التي برع نواب التيار الوطني الحر وغيرهم على إلقائها على مسامع اللبنانيين على مدى سنوات في مواضيع شفافية الموازنة وشموليتها، فقد تم الاستغناء عن هذا كله، ليتم استبداله اليوم بالقواعد الذهبية الجديدة المجهولة لإعداد الموازنة.
ليسمح لنا وزير الاقتصاد أن نشاركه بعض خبرتنا خلال العمل في صندوق النقد الدولي على مدى سنوات عديدة لنطلعه على كيفية مقاربة إعداد الموازنة. فنقطة الانطلاق تكون عادة تحديد الأهداف الاقتصادية العريضة، ومن ثم يتم تحديد التحديات ليصار بعدها إجراء عملية Optimizationأو تعظيم للمكتسبات من خلال الاستعمال الأفضل للموارد المتاحة. وتأتي على هذا الأساس الموازنة بكليتها ترجمة لسياسة اقتصادية واضحة تصارح الرأي العام عن التضحيات الواجب تحملها وعن المكتسبات التي من الممكن تحققها. ولا ضير في هذا الخصوص أن يرتفع العجز قليلا أو أن ينخفض طالما أن هنالك رؤية واضحة عن كيفية تكبير حجم الاقتصاد وتوفير فرص العمل والنمو على المدى المتوسط. وان يتبين لجميع المعنيين أن هناك سعيا حقيقياً للعودة الى تخفيض العجز من خلال التقدم على المسار الذي يقترحه مشروع الموازنة. هذا هو الأساس في إعداد الموازنات، وهو Top Bottom Approachوليس الانطلاق من رقم محدد وبناء موازنة على أساسه (Bottom- Top Approach).
ثامناً: الخلاصة:
لقد تخلت الحكومة في مشروعها للموازنة عن مبادئ الشفافية والشمولية وعن المبادئ الأساسية الداعمة للاستقرار. كما تم الاستغناء سابقاً عن المواقف والوعود المتعلقة بشهود الزور والموقف من تمويل المحكمة، وإعادة النظر بالنموذج الاقتصادي المتبع، وذلك كله بهدف واحد: يتضح من مواقف وتصرفات اهل الحكم وهو التمسك والإمساك بالسلطة حتى ولو كان على حساب المصداقية والحكم الرشيد وزيادة العجز بل وأيضاً على حساب إفقار البلاد وتفويت الفرص الاقتصادية من أمامه.
سنتان من التوتير السياسي والعواصف الفنجانية أرخت بثقلها على الاقتصاد الوطني وأضرت دعائمه فحولت نموه إلى تباطؤ، وفائض ميزان مدفوعاته إلى عجز، وأبعدت السياح والمستثمرين العرب وحتى اللبنانيين. هذا ناهيك عن التراجع الكبير في مستويات الأمن والأمان والثقة والتراجع في الاستقرار والسلم الأهلي. وذلك كله في سبيل ماذا؟ في سبيل التمسك بالسلطة من اجل الحفاظ على هيمنة السلاح. كل ذلك ولو على حساب حاضر ومستقبل اللبنانيين.
فشل، هروب إلى الأمام، تزوير للحقائق وديماغوجية تغيير للمبادئ في ظل الظروف المستجدة. هذه هي جردة الحساب للحكومة في سنتها الأولى ولحزب الله وحلفاؤه في التيار الوطني الحر في تجربتهم الأولى في الحكم.
لم نؤمن يوماً بأن هذا الفريق قادر على تقديم أي مشروع اقتصادي- اجتماعي جدي للنهوض بلبنان وتطويره وإقداره على تحقيق الاستعمال الأجدى للموارد المتاحة وتعزيز فرص ازدهاره أو على القدرة على إدارة الشأن العام بكفاءة ومسؤولية.
لقد كان خطابهم الاقتصادي- الاجتماعي يتسم دائماً بالتهافت، ولكن ما نشهده اليوم هو تهافت التهافت. هذا هو الأدهى... بل هذا هو الأخطر.
·عاد الانتظام لعملية إعداد قطع حسابات الموازنة وحساب المهمة العام بعد انقطاع دام 13 سنة أي من عام 1979 وحتى 1992 ولقد جرى ذلك ابتداء من العام 1993 وحتى العام 2003. كذلك فقد عاد الانتظام إلى إعداد مشاريع الموازنة العامة لكي يجري إعدادها وتقديمها إلى المجلس النيابية ضمن المهلة الدستورية وذلك ابتداء من العام 1994 ولتسع موازنات ثمانية منها خلال ولاية وزير المالية فؤاد السنيورة ومرة خلال ولاية جورج قرم وذلك حتى العام 2005.