الرئيس السنيورة : لتكوين عقد اجتماعي وسياسي جديد يواكب تمنيات شعوبنا العربية ويحقق توقها لمجتمعات تؤمِّنْ لها الحرية والكرامة والعدالة
دعا رئيس كتلة المستقبل النيابية الرئيس فؤاد السنبورة الى اقامة عقد اجتماعي جديد : تنجزه المجتمعات المدنية والسلطات الحكومية معاً مع الشباب وبمشاركتهم القوية. فلقد أصبح واضحاً أنه لا حاجة ولا فائدة ولا مصلحة من اللجوء إلى العنف من أي طرفٍ، لأنّ العنف يؤدي للمزيد من التدمير وإلى ضياع المزيد من الفرص في الحاضر والمستقبل. إنها شراكةٌ جديدة تتأسس على عقدٍ مستأنَف، كما يقول ابن خلدون
وقال : إنّ هذا التدهور الكبير الحاصل على جميع الصُعُد لن يتغير حتى يقوم عقد اجتماعي وسياسي جديد يحدد للمواطن ما عليه أن يقدم من تضحياتٍ مقابل وما سيحصل عليه من مكاسب في المدى المتوسط.
كلام الرئيس السنيورة جاء خلال محاضرة له القيت في مكتبة الاسكندرية خلال مشاركته في مؤتمر :
الديمقراطية في القرن الواحد والعشرين بحضور حشد من المهتمين والمثقفين والمفكرين العرب والمصريين وفي ما يلي نص المحاضرة :
الأخ العزيز الدكتور إسماعيل سراج الدين،
- مدير مكتبة الاسكندرية-
أيها الإخوة والأخوات،
يسعدني أن آتي اليومَ إلى مكتبة الاسكندرية، هذا الصرح العلمي والثقافي والحضاري البارز الذي يليق بمصر وتليق مصرُ به. ويليق بالإسكندرية حاضرة البحر المتوسط.
ويسرني أن أتحدث إليكم اليومَ في افتتاح مؤتمركم عن "الديمقراطية في القرن الحادي والعشرين" ذلك أنّ الموضوع ليس شيقاً ومهماً فقط، بل هو ضرورةُ حياةٍ للعرب في هذه الحقبة الصعبة من حِقَب تاريخهم الحديث والمعاصر من أجل التوصل إلى وضع تصور لمعالجة هذه المسألة في عالمنا العربي ومن ذلك فكرة عقد اجتماعي وسياسي جديد، وهو ما سأقترحه في ورقتي هذه.
إنّ الرؤية التي عرضها الأستاذ الدكتور إسماعيل سراج الدين، مدير المكتبة لما آلت إليه الأوضاع العربية شديدة التشاؤم والانقباض. ولستُ أزعُمُ في هذا المعرِض أنها أكثر إشراقاً، فالواقع شديد السواد، وهو مخاضٌ هائلٌ وعسيرٌ ذاك الذي نمر به نحن العرب أمةً وشعوباً وبلداناً ودولاً ومجتمعات.
الحقيقة أنّ للاختلالات الموجودة والمتنامية، التي تسبّبتْ في هذه المخاضات، أسباباً يعرفها السوادُ الأعظمُ منا. ولقد حصلت ومازالت تحصل من أجل إزالة هذه الاختلالات، حراكاتُ العام 2011 في سائر أنحاء العالَم العربي. وإذا ما كانت تلك الموجةُ الموَّارةُ قد انكفأت لأسبابٍ نعرفُها جميعاً، فستتلوها حتماً موجةٌ ثانيةٌ وثالثةٌ في الوعي والواقع إذا لم يجرِ التنبه إلى ضرورة الاستماع إلى تلك المطالب والعمل على التلاؤم مع المتغيرات بهدف التقدم على مسارات إزالة تلك الاختلالات.
فلنلتفت إلى الأسباب. فالجمهور العربي التواق للمشاركة في ثقافة العالم وتقدمه ما كان محظوظاً في القرن العشرين المنقضي. فبعد تواري الدولة العثمانية، جاء الاستعمار، وتعاظمت النضالات من جانب المثقفين والسياسيين والجمهور من أجل الخلاص منه. وعلينا أن نتذكر أنه حدثت إنجازاتٌ كبرى في حقبة النضال ضد الاستعمار، إذ نشأت سلطاتٌ شعبيةٌ ودستوريةٌ ومؤسساتٌ تمثيليةٌ حديثة. ثم جاءت ظروف الضيق والتضييق في الحرب العالمية الثانية، والتي أُجهضت جهود النهوض والاستقلال والتنمية باحتلال الصهاينة لفلسطين، ثم انقلابات العسكريين في الدول غير النفطية الذين بنوا شرعية وجودهم على ما أعلنوه من إرادة في العمل على استرداد الأرض والكرامة، وإلى إعادة الاعتبار للإنسان كمواطن، وتحقيق الحريات العامة والخاصة والوحدة، والتقدم الاقتصادي والاجتماعي، والإسهام في مقولة ومجال الحياد الإيجابي والتطور المستقلّ. لكنْ وخلال عدة عقود، ما استُرجعت الأرض بل خسرنا أراض جديدة، ولا استُردت الكرامة للإنسان بشتى أشكالها. فلقد تعرّض عدد من بلداننا لنكسات ولعدة اجتياحات وانقلابات وصدامات وخلافات وفتن تميزت بالعنف، وأضعنا بذلك جملةً كبيرةً من القدرات والإمكانات والفرص نتيجة إساءة استعمال السلطة وسوء إدارة الحكم والشأن العام. كما فقدنا الحكومات التمثيلية، وانتُهكت الدساتير الحافظة للحريات العامة والخاصة ولحكم القانون، مع زيادة التهميش للمواطنين وللجمهور بسبب عدم مشاركتهم في الحياة السياسية، وتمادي التراجع في الأوضاع المعيشية بسبب سوء إدارة الحكم والشؤون العامة وبالتالي زادت حدة التردي في جميع المؤشرات الإنسانية والتعليمية والصحية والاجتماعية والمشاركة في الحياة العامة.
أما في بعض الدول النفطية، فقد حدثت وفرةٌ لا يمكن اعتبارها كلها ممارسةً تنمويةً، بل كانت في بعضٍ منها ستّارةً لبعض الأخطاء ولغياب السياسات القادرة على إحداث التقدم النوعي، والتنمية المستدامة ولجهود تنويع اقتصادات تلك الدول وتخفيض مستويات اعتماد اقتصاداتها على النفط مما أبقى تلك الاقتصادات والى حد كبير اقتصادات ريعية.
أيها الإخوة والأخوات،
خلال عقودٍ وعقود جرت في العديد من الدول العربية محاولات لم تكن في معظمها ناجحةً لتحقيق الوعود التي أُطلقت. وعلى ذلك أتى الحفاظ على الأمن في تلك الدول على حساب الحريات، وعيش الحدّ الأدنى على حساب المشاركة وعلى حساب التنمية الاقتصادية والاجتماعية والنمو الاقتصادي المستدام. كما جرت محاولات من أجل الحفاظ على استقرار الاقتصاد الكلي، ولكن ما بُذلت جهودٌ كافية على المستوى الذي تقتضيه الإرادةُ السياسية والاقتصادية القوية والمستنيرة في القطاعات الحيوية الإنتاجية، ولاسيما لجهة تحقيق النهوض المستدام ورفع مستوى المعيشة ونوعية عيش المواطنين، وفي التقدم على مسار تحسين التعليم النوعي المتلائم مع التطورات العلمية وفي اسواق العمل، أو في تحسين مستويات الرعاية الصحية وعلى صعيد إيجاد فرص العمل الجديدة للأعداد الكبيرة المنضمة إلى أسواق العمل. وقبل ذلك كلِّه وبعده غابت الحريات وغابت الأحزاب السياسية الحقيقية وحيويات المجتمع المدني، وأُلْغي الشارع السياسي لصالح المزيد من الاستبداد وقمع الحريات في الوقت الذي كانت دول عديدة في الجوار القريب والبعيد تضج بالمتغيرات والتحولات.
أيها السيدات والسادة،
الواقع أنه وخلال هذه العقود الماضية التي تعرضت فيه العديد من شعوبنا العربية للقهر الذي مارسه الاحتلال الإسرائيلي وقبله وخلاله الاحتلالُ الأجنبي والأنظمة الدكتاتورية المستبدة، قام عقدٌ اجتماعيٌّ وسياسي في عددٍ من الدول العربية كأمر واقع- حيث أن الإرغام لا يسمى عقداً- على أن تتولى الأنظمة الديكتاتورية والشمولية التي استمرت في الحكم طوال عدة عقود بتأمين الأمن والاستقرار السياسي لمواطنيها برغم أنّ ذلك تمّ على حساب المشاركة والديمقراطية. وكذلك أيضاً على أن تتولى تلك الأنظمة تأمين الاستقرار الماكرو-اقتصادي ضمن الإطار العام. ولكن أيضاً ويا للأسف فقد تمّ ذلك على حساب الإصلاحات البنيوية العميقة التي كانت تحتاجها تلك الدول العربية لتأمين نِسَبٍ أعلى من النمو والتنمية الاقتصادية والاجتماعية والمناطقية. كما أن ذلك لم يترافق أيضاً مع مستويات مقبولة من الإصلاحات البنيوية الضرورية لتحسين مستويات إدارة الحكم وقضايا الشأن العام لتعزيز ثقافة الإنتاج ورفع مستويات التنافسية والإنتاجية والشفافية والإفصاح والمشاركة وتقليص الفساد، وبما يُقْدِرُ تلك البلدان على تأمين مستويات التنمية والنمو الضروري الذي تحتاجه في مواجهة الزيادة الكبيرة والمتنامية في عدد السكان، وبالتالي إلى إيجاد فرص العمل اللازمة للملايين من الشباب الذين كانوا يحتاجون ويتوقون للانضمام لسوق العمل على مدى العقود الثلاثة الماضية. وعلى ذلك، فقد تفاقمت مستويات البطالة وحملت معها أيضاً المزيد من الفساد المستشري وبالتالي المزيد من اليأس والإحباط وانسداد الأفق لدى قطاعات واسعة من المواطنين ولاسيما لدى الكثيرين من الشباب.
ولقد حصل هذا الارتفاع في معدلات البطالة وبالأخص لدى الشباب بالتزامن مع انعدام المبادرات الفعالة للخروج من المآزق المتزايدة وذلك مع تزايد الوعي بضرورة المبادرة بسبب تداعيات الثورة التكنولوجية وبالأخص على صعيد وسائل التواصل الاجتماعي، التي شكّلت الأداة والمحفز الرئيسي لاندلاع شرارة الانتفاضات وكذلك الاضطراب في بعض البلدان العربية.
لقد أدرك قسم كبير من أولئك الشباب أن كلفة الاستقرار الهشّ بشقيه السياسي الأمني والاقتصادي، كانت مرتفعة جداً على صعيد الخسارة الواقعة في مجالات الحريات والعدالة والكرامة بشتى أشكالها، كما أنه أدرك أيضاً أن هذا الاستقرار الهشّ لم يؤد في الواقع إلى ترجمة ما تحقق على الصعيد الماكرو-اقتصادي إلى اختراقاتٍ تُذكرُ في ما يختص بتحسين أداء ونمو القطاعات الاقتصادية المختلفة. وبالتالي لم يؤد ذلك كله إلى قفزة نوعية على صعيد إيجاد فرص العمل وتحسين مستويات ونوعية العيش ولجهة تقليص بؤر الإقصاء وعمليات التهميش والمنع من المشاركة.
لقد ظنت معظم تلك الأنظمة أو هي قد تمنت بأن يؤدي هذا الاستقرار الاقتصادي إلى تشجيع الاستثمار في مشاريع قادرة على تعظيم مستويات التنمية ومعدلات النمو وبالتالي خلق فرص العمل التي تحتاجها في توظيف الشباب. ولكن الواقع هو أن هذا الاستثمار المحقق ظلّ ضئيلاً وبالأخص في القطاعات الحيوية لأن الإصلاحات الحاصلة على صعيد إدارة الحكم وقضايا الشأن العام لم تكن كافية ولم تشتمل أيضاً وبشكل كاف على تعزيز التنافسية والإنتاجية وتسهيل معاملات وإجراءات القيام بالأعمال وإقرار التشريعات الضرورية لحماية الاستثمار وتوسيع مداه وزيادة فعاليته أو لتعزيز الشفافية وزيادة مستويات الافصاح وتقليص معدلات الفساد وتعديل قوانين العمل وتحسين مستويات التعليم واكساب الشباب المهارات اللازمة، وهي كلها إصلاحات ضرورية لم تنفذ بالقدر المطلوب ولأنها كذلك وفي كثير من الأحيان كانت تمس مباشرةً مصالحَ قائمةً ومستقرةً بين شركات ضخمة كانت على علاقة عضوية بالأنظمة أو بالقائمين عليها.
لقد أدى ذلك الاستقرار الماكرو-اقتصادي الهش القائم قبل الانتفاضات إلى تعزيز موقع أولياء الحكم مادياً. بالإضافة إلى ما كانوا يتمتعون به على الصعيد السياسي وهو الأمر الذي أدى إلى أن يشكلوا مع أقربائهم وأنسبائهم طبقة جديدة تتمتع بالغنى الفاحش. من جهة أخرى، فقد اتسعت الهوة بين تلك المجموعات وبين الطبقات الأخرى. كما تضاعف التأثير السلبي لهذه الفجوة المتزايدة مع انحسار أو عدم قيام طبقة وسطى حقيقية جديدة كان من الممكن أن تشكل ربما صمام أمان. ولقد منعت تلك الممارسات، المنافسة الشريفة المرتجاة بكونها أدت إلى إنتاج كارتيلات عائلية زادت في حجم الثراء المتفلت على حساب الفعالية الإنتاجية والتنافسية، وهو ما منع تطور القطاعات الاقتصادية الأخرى وبالأخص الصناعية والزراعية القادرة على خلق فرص عمل جديدة معتبرة، كما منع كذلك تطور مجالات الاستفادة مما يتيحه الاقتصاد الحديث القائم على المعارف والمهارات المستندة إلى تحسين كاف ومستمر في مستويات التعليم وتلاؤم نوعيته وتنوعه مع حاجات تنمية تلك الاقتصادات ونموها.
ولقد عبَّرت مبادرة بائع خضار متجول إلى إحراق نفسه في تونس بدقة عن انتهاء صلاحية هذا العقد الاجتماعي والسياسي القائم بحكم الواقع في العقدين الأخيرين.
وجاءت حركات الربيع العربي تعبيراً عن رفض الشعوب العربية لهذا الواقع المرير ورغبتها بإعادة صياغة العقد الاجتماعي والسياسي القائم بحكم الواقع والذي ارتكزت عليه بعض الأنظمة العربية على مدى العقود الثلاثة الفائتة.
وعلى ذلك دخل العالم العربي في مرحلة مضطربة بنتيجة قيام بعض الأنظمة بعسكرة تلك الانتفاضات عبر اللجوء إلى العنف المفرط مما أدى في المحصلة إلى حلولِ ظروفٍ فوضوية تشبه الحروب الأهلية في عدد من البلدان العربية.
وعلى ذلك فقد شهدنا تبخر الاستقرار بجوانبه السياسية والأمنية والاقتصادية من دون أن يؤدي ذلك إلى مكاسب على صعيد الإصلاحات السياسية أو الاقتصادية البنيوية.
فمعدلات النمو في الفترة ما بين 2011 و2015 انخفضت من معدل 5% قبل بدء الانتفاضات إلى معدل 2.5% بعدها، وزاد العجز في الموازين التجارية وفي الموازنات العامة ليبلغ حدود الـ15% من الناتج المحلي بعد أن كان بحدود الخمسة بالمائة قبلها. كما ارتفع التضخم من 5% إلى 10% وتدهورت الاحتياطات بالعملات الأجنبية، ما أثر على قيمة العديد من العملات الوطنية، وهو ما أثر في الأساس على القيمة الشرائية للطبقات ذات الدخل المحدود ومستويات ونوعية العيش لديها.
أيها السيدات والسادة،
لقد ترافق ذلك مع تحولات كبرى على صعيد اختلاط الأمور السياسية بالدينية ولجوء بعض المتطرفين إلى العنف الذي بدأ يتخذ أبعاداً إرهابيةً خطيرة أسهمت في إطلاقها عدد من الأنظمة وقبلها تراكُمُ المشكلات السياسية والاجتماعية على مدى عدة عقود والتي بقيت دون حلول حقيقية دائمة مما أسهم في زيادة حدة انسداد الافق وتراجع الثقة بالمستقبل لدى المواطنين ولاسيما لدى الفئات الشابة. كما ضاعفت تلك التراجعات من الآثار السلبية لتلك المشكلات ولاسيما استمرار القضية الفلسطينية دون حلول عادلة ودائمة، وكذلك زيادة حدة التدخلاتُ الاجنبيةُ والإقليمية، مما دفع أعداداً من الأفراد والجماعات إلى الانكفاء أو التقوقع أو الانغلاق الموصل إلى تعميم وتبرير ثقافة رفض الآخر يدفعهم إلى ذلك فكر مريض ترعرع بداية في رحم تجربة أفغانستان المدمرة وبعدها في رحم الأنظمة التي مارست مختلف صنوف الاقصاء والتي غذّتها كلها مناهج التعليم الديني غير المتدبر حقاً للقرآن ولتعاليم الإسلام السمحة. ولقد أسهم ذلك كله في تخريب عقول بعض الناشئة الذين أعطوا لنفسهم صلاحية التفتيش في ضمائر المؤمنين أو في تكفيرهم، وبالتالي فقد أسهم ذلك كله في لجوء البعض إلى استعمال العنف المتفلت من اي رادع ديني أو أخلاقي إلى الوقوع في لجّة التحول إلى الإرهاب.
لقد كان من نتيجة ذلك كله أن دخلت المنطقة العربية في مرحلة بالغة الخطورة، حيث فقدت تلك البلدان الاستقرار الأمني دون أن تكسب في الحريات، وخسرت الاستقرار الاقتصادي والسياسي من دون أن تكسب في الإصلاح البنيوي والمؤسسي وازدادت حدة التشدد والتعصب الديني واللجوء إلى العنف والارهاب بدلاً من السعي إلى إعمال العقل وفتح الآفاق للانفتاح والاعتدال والتسامح.
لقد مرّ جمهورنا خلال السنوات الخمس الماضية بدروسٍ قاسية. فشبابنا وجمهورنا أراد التغيير ويريده. لكنّ أحداث السنوات الماضية بعثت على مخاوف كبيرة. فقد قوبل الكثيرون من مريدي التغيير بالإقصاء والتهميش وبالعنف المفرط. وقد أدى ذلك كله وفي المحصلة إلى انهيار كيان الدولة في كل من سورية والعراق وليبيا واليمن والصومال.
ولقد كان من نتيجة تلك الصدمات الخطيرة والمتلاحقة أن أصبح الجمهور العربي أمام تخوفّين: الأولأنّ مطالب التغيير انقلبت إلى الضد. وفي الوقت نفسه فإنّ العودة للأوضاع السابقة أصبحت غير ممكنة وغير معقولة. والثاني، أنّ انهيار الدولة بالمطلق لا يترك بدائل للعمل عليها، وقد يقود للاستكانة وإلى تعميق حال من اليأس المؤدي إلى التطرف واستسهال اللجوء إلى العنف. ولذلك فقد أصبح على السياسيين والمثقفين والناشطين في مسائل وقضايا الشأن العام أن يضعوا في اعتبارهم هذين الأمرين الواقعيين، وهم يحاولون التفكير بالمستقبل أو التخطيط له. حيث لا يصح ولا يجوز أن نبقى أسرى الموقف الراهن المتردي للجهتين، ولا بد من تغيير إيجابي إذا صحّ التعبير بتفكيرٍ جديدٍ وبديل، وبعملياتٍ تضعنا بالفعل على طريق الخروج من هذه المآزق المتكاثرة نحو المستقبل الآخر الذي تنفتح فيه الآفاق لأولئك الشباب مستفيدين من هول هذه التجارب الأليمة.
أيها السيدات والسادة،
فيما خصّ مواجهة التيارات المتطرفة، فإنه قد أصبح واضحاً ومحتماً في آن أنه لا بد من إنقاذ الإسلام واسترجاعه ممن يحاولون اختطافه، وبالتالي إنقاذ العالم العربي من الوقوع في محن صراع الأصوليات القاتلة وذلك من خلال التصدي للحركات الإرهابية المتطرفة والمبادرة إلى القيام بجهود مصممة لخوض غمار الإصلاح الديني وإعداد البرامج الهادفة لإصلاح التعليم الديني الذي نقدمه لناشئتنا. كذلك فإنه ينبغي أن يتوجه هذا الاصلاح أيضاً إلى رجال الدين الذين عليهم أن يكونوا رواداً في الدعوة للانفتاح والتحديث والتأكيد على أهمية الاعتدال والانفتاح والتسامح والحرص والحفاظ على احترام حقوق الإنسان وحرياته العامة والخاصة. إنّ هناك حاجةً ماسةً لتشجيع التفكير النقدي في مجتمعاتنا، من أجل تغيير الرؤية للعالم لدى الأجيال القادمة، خاصةً بعد عقودٍ من استتباع الأنظمة العسكرية والأمنية للمؤسسات الدينية.لقد آن الأوان ليُسهمَ المسلمون على اختلاف جنسياتهم في مهمة الإصلاح الديني الإسلامي بإثراء المنظور الديني وتعميقه عبر إعادة الاعتبار للعلم والمعرفة وتأكيد المطالبة بتوفير حقوق الإنسان والانفتاح على العالم على قاعدة أُخوّةِ البشر وتعارُفهم وتعاوُنهم في المشتركات والمصالح الكثيرة والكبيرة التي تجمعُهُم في الحاضر والمستقبل.
أما فيما خص التقدم على مسارات عملية البناء، فإني أبدأ بالقول أنه لا بُدَّ من التوافق من أجل التوصل إلى وضع عقد اجتماعي وسياسي جديد، تنجزه المجتمعات المدنية والسلطات الحكومية معاً مع الشباب وبمشاركتهم القوية. فلقد أصبح واضحاً أنه لا حاجة ولا فائدة ولا مصلحة من اللجوء إلى العنف من أي طرفٍ، لأنّ العنف يؤدي للمزيد من التدمير وإلى ضياع المزيد من الفرص في الحاضر والمستقبل. إنها شراكةٌ جديدة تتأسس على عقدٍ مستأنَف، كما يقول ابن خلدون، اي أنه تجديدٌ لتراثٍ عريقٍ من التضامن والتجانُس والمصالح المتبادلة والاعتماد المتبادَل بالدواخل العربية. إنه بناءٌ للإنسان الفرد، وللإنسان الجماعة، تبرز فيه قياداتٌ مستنيرة مؤمنة بالإصلاح الحقيقي، وتكون عُرضة للمحاسبة على أساس الاداء من خلال ممارسة صحيحة وصادقة للأصول الديمقراطية.
إنّ هذا التدهور الكبير الحاصل على جميع الصُعُد لن يتغير حتى يقوم عقد اجتماعي وسياسي جديد يحدد للمواطن ما عليه أن يقدم من تضحياتٍ مقابل وما سيحصل عليه من مكاسب في المدى المتوسط.
إنّ العناصر الأساسية التي لا بد أن يتضمنها هذا العقد الاجتماعي الجديد هي التالية:
- التأكيد على استعادة إيمانِنا بالعروبة المستنيرة كرابطة ثقافية ورابطة حضارية وثيقة تقوم على التكامل والاعتماد المتبادل فيما بين دولها وشعوبها وليس مشروعاً سياسياً. ولقد أدى انحسار مفهوم العروبة على مدى العقود الماضية إلى أن طفت على السطح مجموعة كبيرة والمسائل تتعلق بالانتماءات والتي شجعت على الانقسام على أساس هويات وانتماءات طائفية ومذهبية وعرقية والتي أسهمت في تعميقها صدمات وممارسات داخلية وأخرى ناتجة عن تدخلات خارجية.
العروبةُ التي تجمعُ بين العرب وتشجع كل معاني وقيم التوسط والاعتدال والانفتاح والحوار والتسامح والحرية والديمقراطية. العروبة التي تؤمن بمشروعية التعدد ضمن احترام الإطار الوطني للدول والتي ترعى حق الاختلاف وترفض العنف ونزعات الإقصاء والتكفير أو التفتيش في ضمائر المؤمنين.
العروبةُ الحريصةُ على احترام التنوع والآخر.
العروبةُ المؤمنةُ بالدولة المدنية المعترفة بحقوق المواطنين المتساويين والتي تحترم حقوق الإنسان على أساس الاعتراف بحقوق وواجبات المواطنة دون اي تمييز بينهم على أساس عرقي أو ديني أو مذهبي أو مناطقي.
- التأكيد على أنه لا يمكن أن يكون الخيار الأوحد المتاح لمجتمعاتنا العربية هو الاختيار بين الأنظمة الشمولية والأنظمة الدينية أو التي تدَّعي ذلك. من جهة أخرى، فإنّ تجربتنا المريرة على مدى العقود الماضية كانت في أنه كان علينا ان نختار بين الشمولية والتطرف وهما وجهان لعملة واحدة. ولقد أصبح واجباً بل ضرورياً سحب تلك وهذه العملة من التداول!
لقد أثبت الربيع العربي أنه وبالرغم من الإخفاقات والتعثرات المختلفة الحاصلة، فإنّ الشعوب العربية وبالأخص الشباب العربي يتوق إلى مجتمعات مدنية حديثة معتدلة بعيدة عن الشمولية والاستبداد والغلو والتطرف والمزايدات.
إنّ الدولة المدنية المحتضنة لجميع مكوناتها دون اقصاء أو تهميش، هي التي تحترم تعددية الأديان، لا الدولة العسكرية ولا الدولة الدينية. فالدولة المدنية تبقى العنصر الأول والأساس في هذا العقد الاجتماعي والسياسي الجديد.
- التأكيد على أن حقوق الأفراد والحريات العامة والخاصة كما حقوق الجماعات لا يضمنها إلا الدستور مع العودة إلى التأكيد على وجوب الالتزام الكامل به وبتطبيقه.
ان الأنظمة الشمولية وأجهزتها العسكرية والمخابراتية مازالت تمارس الابتزاز السياسي والأمني على الأقليات وذلك بهدف إيهامها بأنها قادرةٌ على حمايتها وهو الأمر الذي أثبت فشله وعدم ديمومته.
فالواقع أن فاقد الشيء لا يعطيه. هذه الأنظمة لا تؤمن بالتعددية، ولا بالمشاركة ولا بالحريات الفردية ولا بالحريات العامة. وعلى هذا فهي لا يمكن أن تمنح الحرية الحقيقية للجماعات سواء أكانت تشكل أكثرياتٍ أم لا.
كذلك الأمر فإنّ اللجوء إلى ما يسمى بتحالف الأقليات بهدف حمايتها ما هو إلاّ وصفة موصوفة وسريعة إلى إشعال حروب ونزاعات لا تنتهي ولا تؤدي في المحصلة إلى أي نتيجة بل هي على الأرجح التي تقود إلى مخاطر حقيقية ووجودية.
إن التعددية وهي أحد أبرز ميزات هذا الشرق، هي بالفعل نعمة ويجب أن تكون مصدر غنى لمجتمعاتنا العربية.
للأسف لقد حولت بعض الأنظمة العربية هذه النعمة إلى نقمة وعلى هذا فإنّ العنصر الثالث الأساسي في أي عقد اجتماعي جديد يجب ان يكون في ضمان وترسيخ حقوق جميع مكونات مجتمعاتنا العربية واعتبارهم كمواطنين في إطار دستوري واضح يحترم وحدة الوطن وبشكل غير ملتبس ومن خلال مؤسسات فاعلة وضامنة ملتزمة باحترام الدستور والقوانين التي أنشأتها.
- التأكيد على وجوب خوض غمار الإصلاح المؤسسي وذلك من خلال الحضّ على اعتماد الفكر المؤسسي والعمل على قيام المؤسسات وتفعيل عملها وضمان قدرتها على العمل بتعاون واحترام وتناغم بين بعضها بعضاً. ولكن أيضاً ضمان قدرتها على مراقبة بعضها بعضاً (Checks and Balances).
فالدستور الضامن لحريات الأفراد والجماعات وكذلك الضامن لحقوق الملكية وغيرها من الأسس والقواعد المهمة لقيام الدولة المدنية الحديثة العصرية والمتلائمة مع العالم، لا يكفي وحده اذا لم يترافق مع مؤسسات قائمة وفاعلة تضمن تطبيقه في إطار من الشفافية والإفصاح.
والتجربة العالمية على صعيد التقدم الاقتصادي والانمائي واضحة لا لَبس فيها لناحية أهمية الإصلاح المؤسسي بل استمرار حيويته ومبادراته لتحقيق التقدم والنمو الاقتصادي.
وفي هذا الاطار، لا بد من التأكيد على وجوب تفعيل المجالس النيابية التي تقوم بمهمتي التشريع والرقابة.
أما على صعيد السلطة التنفيذية وهي المخولة بالحفاظ على الإطار الاقتصادي والسياسي العام، فلا بد من إطلاق ورش أعمال على صعيد الإصلاح الإداري وأيضاً على صعيد القيام بجهود كبرى لتوسيع وتعزيز البنى التحتية التي تحتاجها تلك المجتمعات واقتصاداتها والتي تحتاج فعلاً إلى ما يشبه خططاً تنمويةً على غرار مشروع مارشال في أوروبا من ضمن إطار سياسة التكامل العربية القائمة على الاعتماد المتبادل وعلى نظام المصلحة العربية واحترام قواعد الأمن القومي العربي وذلك لإحداث النقلة النوعية وبالأخص على صعيد قطاعات المواصلات والاتصالات والطاقة والمياه.
وأخيراً وليس آخراً على صعيد الإصلاح المؤسسي في وجوب قيام سلطة قضائية وأخرى دستورية مستقلة وكفوءة وفعّالة تضمن الحقوق والواجبات وتضمن حسن تطبيق هذا العقد الاجتماعي والسياسي الجديد وتواكب ورش إعادة الإعمار والاستثمار لتحقيق نسب افضل من التنمية والنمو المستدام وبالتالي تحقيق زيادات محسوسة في فرص العمل الجديدة.
- التأكيد على وجوب تلازم مسارَي الاستقرار الماكرو-اقتصادي والإصلاح البنيوي. فقد دلّت التجربة في بلدان عديدة كما سبق وذكرنا، بأنّ الاستقرار الاقتصادي على أهميته وضرورته، غير قادر إذا لم يتزامن ويواكب الإصلاحات البنيوية الجذرية والعميقة القادرة على تحفيز عملية خلق فرص العمل الجديدة وبالتالي خفض معدلات الفقر والبطالة التي يعاني منها عالمنا العربي. فالإصلاحات البنيوية المطلوبة هي تلك التي تعالج مشاكل الاحتكار وتزيد من مرونة وشفافية الاقتصاد بمختلف قطاعاته مما يفعِّلُ التنافسية ويعزز الانتاجية والنمو.
إنّ هذه الأركان الخمسة وهي: العروبة المستنيرة والدولة المدنية، وحماية حقوق الأفراد والجماعات التي يجب تكريسها في الدستور، وقيام المؤسسات الفاعلة وتلازم الاستقرار الاقتصادي مع الإصلاح البنيوي، هي الأسس لتكوين عقد اجتماعي وسياسي جديد يواكب تمنيات شعوبنا العربية ويحقق توقها لمجتمعات تؤمِّنْ لها الحرية والكرامة والعدالة. ولهذا نرى أنه على أي سلطة حالية او مستقبلية في عالمنا العربي ان تضع خارطة طريق تسمح بصياغة هذا العقد ضمن إطار زمني محدد. عندئذٍ يمكن أن ينفتح أفق استعادة الأمل في المستقبل لدى مواطنينا وخاصة لدى الشباب وأيضاً تتعزز الثقة بالحكومات على أساس الاداء وبالتالي عندها وعندها فقط يكون مقبولاً وممكناً أن يُطلَبَ من هذه الشعوب التي عانت الكثير حتى الآن أن تقدم المزيد من التضحيات المطلوبة ولكن بشكل عادل بين مكوناتها وعلى قدر استطاعة هذه المكونات على المدى القصير والمتوسط بما يؤدي إلى تحقيق الأهداف المرجوة في الإصلاح والنهوض.
أيها السيدات والسادة،
إنها سنواتٌ صعبةٌ وصعبةٌ جداً، صعد فيها الإرهاب، وهُجِّر عشراتُ الملايين من العرب عن ديارهم، وما بقيت جهةٌ إقليمية أو دولية إلاّ تدخلت في بلداننا. لكنْ ماهي السنوات الخمس أو العشر في حياة الأُمَم؟ نحن أمةٌ عريقةٌ صنعت حضاراتٍ ودولاً ونحن قادرون على استعادة النهوض. ولنتذكر دوماً بأن النجاح يمكن أن نستولده من رحم الفشل والمشكلات التي ابْتُلينا بها أو ساهمنا نحن في إلحاقها بأنفسنا، وان التألق يمكن أن يحصل من عتمة الظلام وان الريادة العربية ممكنة التحقق إذا نحن فعلاً أردنا ذلك.
لقد سعدتُ بالتحدث إليكم عن الديمقراطية وعن تصوري لممارستها في البلاد العربية في القرن الواحد والعشرين وذلك في ضوء تلك التجارب المريرة التي عانى منها العرب على مدى عقود طويلة ماضية وهي الممارسات الجديدة التي أرجو أن تعتمد من قبل الدول العربية. ويكون ذلك من خلال التوصل إلى صياغة عقود اجتماعية وسياسية جديدة تنبذ الاقصاء والتهميش والعنف وتؤمن بالمشاركة وتعتمد التنمية وتحقق الاستقرار ويكون هاجسها العمل على تعزيز وتثبيت عملية النهوض الاقتصادي والاجتماعي والسياسي بما يسهم في استعادة رُقيِّ تلك الأوطان والأمة جمعاء.
أرجو أن لا أكونَ قد أطلتُ عليكم ولكن أتمنى أن أكون قد طرحت أفكاراً جديدة جديرة بالتفكير فيها. أشكركم على صبركم، وإلى اللقاء.