السيرة الموسعة : من حي الكنان إلى الجامعة الأمريكية

لا يزال فؤاد السنيورة يتلمس آثار ألم خفيف في كتفه اليمنى كلما شعر بالبرد، فهو كان قد تلقى في هذا الموضع في العام 1963 ضربة من عَقب بندقية شرطي عندما كان يشارك في تظاهرة طلابية مؤيدة للثورة الجزائرية. يومها كان فؤاد السنيورة من الأعضاء الناشطين في صفوف حركة القوميين العرب، طالبا في الجامعة الأمريكية، يدرس إدارة الأعمال، بعد أن كان قد انطلق في دراسة الطب وعاد واكتشف عدم ميله لهذه المهنة.

بعدها في العام 1967 وحين أطل الرئيس المصري جمال عبد الناصر على شاشة التلفزيون لإعلان استقالته إثر هزيمة الجيش المصري أمام الجيش الإسرائيلي، سارع الشاب فؤاد إلى الصراخ بانفعال... لا... لا... لا وهب خارجاً من منزل والديه في صيدا باتجاه ساحة النجمة، ليجد المئات من أبناء مدينته قد تجمعوا في الشوارع رفضاً لاستقالة الرئيس عبد الناصر والذي كان رفضاً للقَبول بالهزيمة أو الاستسلام. وفي تلك الساعات كانت شوارع المدن العربية كلها تغص بالتظاهرات الرافضة لاستقالة القائد والمطالبة بالصمود ورفض الهزيمة والعمل على النهوض بقضايا الأمة وفي مقدمها القضية الفلسطينية.

ولد فؤاد السنيورة في العام 1943 وهو اصغر أخوته الشباب حيث يسبقه سامي والمرحوم علي، وأيضا شقيقاته: سامية، (كرام وعائدة وماجدة اللواتي توفين) وسلوى أصغر أولاد عائلة عبد الباسط السنيورة.

تربى فؤاد السنيورة وسط عائلة محافظة متدينة لكن من دون تعصب لكن شديدة الاحساس بالقضايا الوطنية والقومية. كان الوالد رجلاً عرف عنه الصبر والتفاني والمثابرة في إتقان فصوله، وهو متواضع التعليم لكنه وضع وزوجته سعاد كامل الصباغ- شقيقة العالم الجغرافي سعيد الصباغ معد أول كتاب أطلس في العالم العربي- قضية تامين العلم لأولادهم فوق أي اعتبار آخر، باعتبار أن اكتساب العلم والاتكال على الذات هما طريق الترقي والصعود الاجتماعي.

كانت حال عائلة عبد الباسط السنيورة، كحال العديد من العائلات الصيداوية تضع نصب عينها المنطلقات التالية: التمسك بأهداب الدين والأخلاق الحميدة، والاستقامة وتركيز على اكتساب العلم والثقافة ونيل الشهادات والعمل والمثابرة للنجاح.

تلقى اغلب أشقاء وشقيقات فؤاد السنيورة التعليم في مدارس المقاصد، ثم في مصر قبلة المسلمين والعروبيين في ذلك الزمان، وكان الوالد الذي عمل في التجارة والصناعة والزراعة صاحب اهتمام ومتابعة لآخر التطورات السياسية والثقافية والفكرية وعلى وجه الخصوص ما كانت تكتبه الأهرام والهلال والمقطم.

يقول فؤاد السنيورة إن تمازجاً سيطر على جو المنزل، اشتركت فيه جدية وكفاح الوالد، وطيبة ووداعة وحنان الوالدة. وكل ذلك كان باتجاه هدف أساسي هو، اكتساب العلم والاتكال على النفس من أجل التقدم. لهذه الأسباب كان المسموح في المنزل هو التعاطي مع ما ينفع، أي الدراسة والإيمان والجدية. فلعب الورق ليس مسموحاً ولا حتى لعب الطاولة، إذ إن أوقات الفراغ تخصص لشيء مفيد، أوله القراءة. أما الترفيه، فهو بقدر مدروس، عبر ارتياد السينما أو المسرح للأعمال الجيدة. ولهذه الأسباب نرى أن فؤاد السنيورة أقدم على قراءة سيرة عنترة بن شداد الواقعة في ثمانية أجزاء وهو في سن الحادية عشرة، ولكنه لم يتعلم لعب الطاولة إلا من والد خطيبته آنذاك هدى البساط أي في منتصف السبعينات.

كان الفتى فؤاد السنيورة يذهب إلى متجر والده الكائن في مبنى مطرانية الكاثوليك في شارع المطران (الشاكرية) في صيدا، حيث الكنيسة وباحتها والمسجد القريب. وكان من الطبيعي أن يلتقي ويراقب أبناء مدينته المسيحيين وهم يأتون إلى الكنيسة عند الغروب ويوم الأحد لحضور القداس، أو في المناسبات الدينية والمختلفة. هم يدخلون إلى الكنيسة المجاورة وهو يتوجه إلى المسجد الملاصق. وفيما كان الوالد منكباً على عمله في التجارة والزراعة متابعاً للأحداث على المستويين القومي والوطني كان ابن جاره في المتجر الملاصق ينتمي إلى حزب الكتائب حيث كانت تدور نقاشات بين فؤاد وابن الجار وتعتاد العين والأذن على مشاهد متعددة متكررة من الاختلاط والتنوع الديني والسياسي والعيش المشترك الإسلامي المسيحي في جو من الهناء والاعتدال والتسامح. وهو يذكر كيف كان دائماً يدخل إلى باحة كنيسة الروم الكاثوليك في صيدا القريبة من متجر والده ليلعب في باحة الكنيسة مع أقرانه وهو لطالما حضر القداس في الكنيسة ولاسيما خلال أعياد الميلاد والفصح وكذلك حضور حفلات الزواج وأحياناً الصلوات على الأموات التي كانت تقام في الكنيسة. وهذه كلها أعطت الفتى فؤاد قدراً كبيراً من معرفة الآخرين من المواطنين وقدرة على تثمين قيمة العيش المشترك والتنعم بفضيلتي الانفتاح والحوار.

وسط هذه الأجواء العائلية من التدين الموزون والجدية المترافقة مع العصامية المستندة إلى التأثر بكل ما هو عروبي، كانت بدايات فؤاد عبد الباسط السنيورة. أصابت نكبة فلسطين الأمة العربية، وكان نصيب مدينة صيدا معها وافراً بالخسائر حيث استقبلت النازحين لكنها تعرضت للخسائر التجارية كما تعرض الجنوب اللبناني الذي تعطلت تجارته مع فلسطين واستقبل اللاجئين الفلسطينيين على آمل العودة غداً أو بعد غد.
في هذه الأجواء، كان من الطبيعي أن يكون التلاقي والاندماج بالحركات السياسية القومية، تلاقياً طبيعياً واندماجاً تلقائياً. وإذا كانت أعداد كبيرة من اللبنانيين قد توجهت إلى دمشق للقاء الرئيس جمال عبد الناصر في زيارته التاريخية يوم إعلان الوحدة، فإن فؤاد السنيورة كان واحداً من الذين زاروا العاصمة السورية انطلاقاً من مبادرة مدرسية كانت قد نظمتها مدرسة المقاصد الإسلامية في صيدا التي كانت موئلاً للحركات السياسية العروبية الصاعدة آنذاك.

في صيدا كان للقوميين العرب في ذلك الحين نادي الجهاد، مركزاً ثقافياً وسياسياً وفكرياً تقام فيه الندوات والمحاضرات، يستقبل الشخصيات وتقام فيه النشاطات. في هذا النادي وعلى أرض حركة القوميين العرب الفكرية توثقت عرى العلاقة بين أعضاء الخلية الواحدة، فؤاد السنيورة ورفيق الحريري زميله في الدراسة في المقاصد. كان رفيق الحريري يدرس في مدرسة فيصل المقاصدية، فيما درس فؤاد السنيورة في مدرسة المقاصد الملاصقة لمدرسة فيصل، وكلتا المدرستين تابعتين لجمعية المقاصد الخيرية الاسلامية في صيدا. وبطبيعة الحال كان نادي الجهاد أيضا مدرسة للناشطين في حركة القوميين العرب وهو مخصص لإعداد الكادرات والتثقيف الداخلي الحركي.

بعد أن أنهى تعليمه الثانوي في صيدا، انتقل فؤاد السنيورة إلى بيروت حيث التحق بالجامعة الأمريكية لدراسة الطب نهاية العام 1962 لكنه عاد و تحول إلى دراسة إدارة الأعمال بعد أن وجد أن قناعته بدراسة الطب لم تعد كما كانت.

في العام 1964 ومع بداية الصراعات بين الأجنحة والتيارات السياسية في حركة القوميين العرب ترك فؤاد السنيورة الصفوف التنظيمية للحركة واكتفى بالنشاط الثقافي والفكري في النادي الثقافي العربي حيث تعاون تعاوناً وثيقاً مع الأستاذ جوزيف مغيزل الذي صار رئيساً للنادي، ثم عاد السنيورة وخلفه في رئاسة هذا النادي حيث كان النادي مركزاً ثقافياً وفكرياً كبيراً ومحورياً شارك في نهوض العاصمة بيروت، وانطلاق حركتها الثقافية المواكبة لبدايات المقاومة وانطلاق نشاط الأحزاب السياسية.

قبل أن يترك تنظيم حركة القوميين العرب، انخرط فؤاد السنيورة في العمل مع نقابة عمال الجامعة الأمريكية بهدف تأطير أكبر عدد ممكن من عمال الجامعة في صفوف الحركة عبر تثقيف العمال وتعليمهم، طبعاً بتكليف من الحركة لكن في ذات الوقت، كان يجتهد للنجاح في الجامعة، لذلك كانت الأولوية بالنسبة له هي للدراسة، ثم النشاط في النادي الثقافي العربي، ثم العمل الحزبي. لكنه فيما بعد تفرغ للدراسة و النادي فقط.

في العام 1970 أنهى فؤاد السنيورة دراسته الجامعية بالحصول على شهادة الماجستير في إدارة الأعمال بعد أن أعد أطروحة عن الطاقة الإنتاجية المعطلة في المؤسسات الصناعية وتحديدا في صناعة الالومنيوم وقد اتخذ مصنع سيدم للألمنيوم نموذجا لدراسته. ولقد كان الدكتور سليم الحص أحد الأساتذة المشرفين على أطروحته إضافة إلى الدكتورين صباح الحاج ونبيل شعث والدكتور عصام عاشور.

لكن فؤاد السنيورة بعد أن حصل من الجامعة على شهادة البكالوريوس في العام 1967 وقبل الحصول على شهادة الماجستير لم ينتظر يوما واحدا للبحث عن عمل بل انتقل مباشرة إلى العمل في السيتي بنك وفي متابعة الإعداد لشهادة الماجستير الذي ما ان تخرج من الجامعة الأميركية بعد الحصول على تلك الشهادة حتى بدأ إلى جانب عمله المصرفي في ممارسة التدريس كمحاضر في كلية إدارة الاعمال في الجامعة الأميركية إلى جانب سعيه الدؤوب للتقدم في نطاق عمله المصرفي في فرع مصرف سيتي بنك في بيروت وبعد ذلك في بنك التمويل ش.م.ل.