كلمة الوزير السنيورة في ندوة حول التأهيل بعودة اللبنانيين الأميركان إلى لبنان “Task Force”
أيها السادة،
أرحب بكم في بلدكم لبنان، في ارض آبائكم وأجدادكم، في الأرض التي ما كانت يوماً، إلا ارض الحرية والتفاعل الإنساني الخلاق بين الأديان والثقافات والحضارات، الأرض التي تميز أهلها بحب المعرفة والمغامرة والطموح، فكان لهم في كل مكان من هذا العالم، حضور مشرف ولافت ومساهمات أساسية في ركب التقدم والتطور والعمران.
قد يتساءل البعض منكم، وبدهشة، كيف أمكن لهذا الوطن الذي اجتاحته حرب مدمرة دامت أكثر من سبعة عشر عاماً، ونالت من بنيته التحتية ومن اقتصاده ومن إنسانه ما نالت، أن يخرج منها وبهذه السرعة موحد الأرض، موحد المؤسسات؟ كيف أمكن لهذا الشعب أن يستعيد وحدته ووفاقه واللحمة بين أفراده وعناصره؟! الجواب، إنها إرادة اللبنانيين، إنها إرادة العيش المشترك بل الحياة الواحدة التي نسج التاريخ خيوطها، وعمقتها صلات الود والمحبة والمصالح المتبادلة وسنوات طويلة من المحن والتجارب، ورسخ جذورها إيمان اللبنانيين بوطنهم وتعلقهم بأرضهم. هذا العيش المشترك الذي لم تقو عليه الحرب، على شراستها، ورغم التهجير ومحاولات فرز السكان القسرية. هذا العيش المشترك الذي كان فيما مضى قدراً، وبات اليوم للبنانيين خياراً حراً وفعل إيمان. انه ركيزة من ركائز قيام الدولة والضمانة الأساسية لاستقلال الوطن وسيادتهوحريته. إن العيش المشترك والديمقراطية، التي تقوم على مشاركة المواطنين جميعاً في المسؤولية وفي صنع القرار السياسي، والحرية، هي القيم الثلاث التي طبعت نظامنا السياسي، منذ أن كان لبنان، والتي ستبقى، على مر الزمن، من الثوابت التاريخية التي لن نحيد عنها.
أيها السادة،
منذ اتفاق الطائف الذي نال تأييد ومباركة المحافل الدولية جميعها، كما تعلمون، والحكومات المتعاقبة قد عملت وهي ماضية في العمل على تحقيق أهداف ثلاث: وحدة الدولة والمؤسسات السياسية، تثبيت الأمن وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها، وإعادة البناء والاعمار.
- إن إحدى منجزات الطائف الأساسية، هي استعادة وحدة الدولة ومؤسساتها السياسية، وقد تم هذا الانجاز بسرعة فاقت كل تصور، وما كان له أن يتم لولا إرادة اللبنانيين وإصرارهم، فالتلاقي العفوي والغامر بين المواطنين، منذ إعلان اتفاق الطائف، قد حطم الحواجز المصطنعة التي كانت تفصل بين اللبنانيين، والوحدة الشعبية قد تمت قبل وحدة المؤسسات، بل شكلت الدعامة الأولى لوحدة الدولة ومؤسساتها. إن الطائف، أيها السادة، لم يكن انتصاراً لفريق على فريق آخر، ولا يجوز لأحد أن يتصرف على هذا الأساس. إن الطائف هو انتصار للبنان، هكذا يجب أن يفهم، وعلى هذا الأساس يجب أن يتصرف الجميع، أن الطائف صنعه اللبنانيون أنفسهم، وبصرف النظر عمن ساعد وساهم وعاون على نجاحه أو بارك انجازه، فإنه يبقى تعبير عن إرادة اللبنانيين، إرادتهم في وضع حد للحرب والعودة إلى السلام، إرادة اللبنانيين تجسدت فيه، وعلى الرغم من الانتقادات التي وجهت من البعض إليه، فإنه كان جسراً عبرنا منه إلى السلام، وبفضله أمكننا استعادة ثقتنا بأنفسنا وثقة العالم بنا، وتمكنا اليوم من الانصراف إلى إعادة البناء والاعمار. ولكن الطائف ليس نهاية المطاف. وأريد أن أكون واضحاً وجازماً بالقول هنا، أمام هذه المجموعة المميزة، التي تعمل من اجل لبنان، إن الحكومة اللبنانية تؤمن إيماناً راسخاَ أن لبنان لا يقوم إلا بجناحيه المسيحي والمسلم، إن العيش المشترك والنظام الحر والديمقراطية والحرية هي من المسلمات والثوابت في نظامنا السياسي والاقتصادي والاجتماعي. إن لبنان ليس لفئة ولا لطائفة ولا لجماعة، إن لبنان للبنانيين. إننا حريصون على الوفاق الوطني بقدر ما نحن حريصون على مسيرة الأمن والسلام وإعادة البناء. إن اللبنانيين جميعاً مطالبون، وفي كل مكان، بالمشاركة في إعادة بناء لبنان واعماره، وليكن معلوماً وراسخاً في أذهان جميع اللبنانيين، مقيمين ومغتربين، إن أي انجاز تقوم به الحكومة، أية حكومة، لن يكون للحكومة ولا لشخص، انه سيكون انجاز للبنان، وستعود خيراته وثمراته لشعب لبنان، وإننا لراغبون، في أن يساهم جميع اللبنانيين في بناء وطنهم وان يكون لكل منهم نصيب في هذا البناء ونصيب في شرف خدمة لبنان، ليعود، كما كان، منارة رقي وحضارة.
- لا بد أنكم شهدتهم، أيها السادة، خلال مدة إقامتكم القصيرة، عودة الأمن والأمان والطمأنينة، إلى ربوع لبنان، لقد كانت مسيرة أمنية طويلة، ومنذ إعلان اتفاق الطائف، استطاعت الدولة ، بمساعدة الشقيقة سوريا، أن تعيد الأمن والسلام إلى كل المناطق اللبنانية، وان تبسط سلطتها على أراضيها، ولكن هذه المسيرة بقيت ناقصة بسبب احتلال إسرائيل جزءاً عزيزاً من جنوب لبنان وبقاعه الغربي، وإصرارها على رفض تطبيق القرار رقم 425 الصادر عن مجلس الأمن، وتحديها للإرادة الدولية، وإمعانها في الاعتداء على الآمنين في الجنوب اللبناني وفي البقاع الغربي، وهدم المنازل وقتل الأطفال، وتشريد الآهلين وتهجيرهم من بيوتهم وقراهم. إن لبنان رضي مختاراً في الدخول في مفاوضات السلام التي بدأت في مدريد على أساس القرار رقم 425 وهو لن يتخلى عن موقفه هذا، فلبنان راغب في السلام، وهو لم يكن يوماً محتلاً ولا معتدياً، ولكنه سيستمر في مقاومته للاحتلال الإسرائيلي، طالما بقي هذا الاحتلال. وهو يعتبر مقاومة الاحتلال الإسرائيلي حق مشروع له، وهو فوق كونه حق طبيعي، فإنه حق تقره الأعراف والشرائع والقوانين الدولية، التي تضرب بها إسرائيل، عرض الحائط، وآخر مثال على ذلك، إنكار إسرائيل القرار 425 على لسان رئيس وزرائها رابين، واستمرارها في الاعتداء على القرى الآمنة في الجنوب والبقاع الغربي.
- وعلى الرغم من كل ذلك، فإننا ماضون في مسيرتنا، فبعد أن حققنا وحدة الدولة ومؤسساتها، وسرنا قدماً في تثبيت دعائم الأمن والاستقرار في البلاد، فإننا ننكب اليوم على إعادة البناء والاعمار في لبنان، ونعكف مع المجلس النيابي الكريم على دراسة برنامج النهوض الاقتصادي، من ضمن مشروع الموازنة العامة للعام 1995. هذا البرنامج الإنمائي الذي نتوخى من خلاله إزالة آثار الحرب ومعالجة النتائج المدمرة التي خلفتها، على مدى السنوات السبع عشرة الماضية، وهي ليست بخافية عليكم، على الصعيد الاقتصادي والمالي والاجتماعي والتربوي، وعلى صعيد البنى التحتية الأساسية. يكفي أن اذكر لكم أن الخسائر المادية التي أصيب بها لبنان بسبب الحرب قدرت بما لا يقل عن 25 مليار دولار أميركي، عدى عن الخسائر في طاقاته البشرية والإنتاجية، لاسيما بسبب هجرة العديد منها إلى الخارج.
ولقد عملت الحكومة اللبنانية، على معالجة القضايا والمشكلات الاقتصادية والمالية والاجتماعية، واتخذت تدابير اقتصادية ومالية سريعة من شأنها لجم التضخم وترشيد الإنفاق، وخفض العجز في الموازنة، وإعادة الاستقرار المالي والنقدي، ووضعت مخططات إعادة بناء البنى التحتية وتطويرها لتلبي حاجات لبنان المستقبلية، كما أمنت للمستثمرين تسهيلات وإمكانيات واسعة للاستثمار من خلال التشريعات الضريبية التي تعطي حوافز ضريبية وغير ضريبية لاجتذاب الرساميل إلى لبنان. هذا فضلاً عن الضمانات التي يؤمنها نظامنا الاقتصادي الحر، فحرية التجارة وحرمة الملكية الخاصة وسيادة القانون والحرية الاقتصادية والمالية، كلها تشكل ضمانات للمستثمرين ورجال الأعمال. وتاريخ لبنان الاقتصادي دل على أن الاستثمار في لبنان لم يكن عرضة لأي تدبير تعسفي، فالحكومة اللبنانية لم تقدم يوماً على اتخاذ أي تدبير من شأنه الحد من الحرية كالتأميم ومنع التحويلات أو إلغاء السرية المصرفية أو الأضرار عمداً بأي مصلحة اقتصادية قائمة، وهي قد وفت بجميع التزاماتها وتعهداتها، وهي، فضلاً عن ذلك تقوم بتفعيل المؤسسة الوطنية لضمان الاستثمارات، كما تقوم بتفعيل عمل بورصة بيروت مع ما يتطلب ذلك من تعزيز للأنظمة المحاسبية ولمؤسسات الرقابة والتدقيق مما يشجع ويطمئن المستثمرين على الاستثمار في المؤسسات الكبيرة. واستكملت الحكومة هذه الخطوات جميعها بانضمامها مؤخراً إلى اتفاقية ميغا الدولية أي المؤسسة المتعددة الأطراف لضمان الاستثمار.
أيها السادة،
إن الحكومة تؤمن بأن أمامها الكثير للعمل، وأننا نواجه صعوبات جمة وتنتظرنا تحديات مستقبلية كبيرة، ويزيد في هذه الصعوبات أن إمكانات لبنان الاقتصادية والمالية ضئيلة. لاسيما، وانه خارج من حرب دمرت معظم قطاعاته وقواه الإنتاجية، وخلفت مشاكل اجتماعية ومعيشية مأساوية، في طليعتها قضية عودة المهجرين التي توليها الحكومة عناية خاصة وتعطيها أولوية قصوى لان في هذه العودة تحصين للوحدة الوطنية والوفاق اللبناني وسياج للعيش المشترك. ولقد زاد في مشكلتنا، إحجام معظم الدول الشقيقة والصديقة والمؤسسات الدولية، عن مساعدتنا، كما كان منتظراً، فاضطررنا إلى دفع ضريبة الحرب وحدنا. ولكن ذلك لن يضعف من إرادتنا ولن ينل من عزيمتنا. إننا مصممون وعازمون على إعادة بناء بلدنا، مهما كانت الصعاب، ومصممون على إزالة كل العقبات من دربنا، وأننا واثقون من قدرتنا وقدرة شعبنا على تخطي وتجاوز هذه المحنة، وسنحول لبنان إلى ورشة عمل وبناء وأننا لندعو اللبنانيين، في كل مكان، إلى المشاركة في هذه الورشة، ورشة إنقاذ لبنان. لقد خطونا خطوات واسعة في هذا السبيل، وما كان لهذه المسيرة أن تنجح لولا إرادة اللبنانيين وتشبثهم بأرضهم وتعلقهم بوطنهم، ولولا تعاون المسؤولين جميعاً وتضحياتهم من اجل إنقاذ لبنان، ولا بد لي هنا من أن اخص بالذكر فخامة رئيس الجمهورية الذي بذل من الجهد والتضحية واظهر من التفهم والصبر والحكمة ما مكن لمسيرة الإنقاذ في لبنان من أن تشق لها طريقاً سوياً رغم الصعاب والضغوط وعثرات الطريق.
أيها السادة،
لقد أسيئ إلى لبنان بما فيه الكفاية. والإعلام الغربي وبعض مواقف الدول، لا يزال يعطي صورة مشوهة عن لبنان. لقد رأيتم بأم أعينكم التلاحم الوطني بين أفراد الشعب وعناصره، وشهدتم حالة الأمن والاطمئنان والسلام التي تسود لبنان، ولاحظتم ورشة البناء والاعمار التي تعم كل مناطقه وأرجائه، وعليكم، كما علينا، مسؤولية تصحيح هذه الصورة، ونقل الصورة الحقيقية إلى اللبنانيين في الخارج والى الرأي العام الأميركي، ونعتقد أن لديكم من المكانة والصداقات والتأثير لدى الإدارة الأميركية، ما يمكنكم من تصويب الأمور، والحؤول دون اتخاذ مواقف من لبنان، من شأنها أن تشوه صورته لدى الرأي العام العالمي، وتعطي انطباعاً خاطئاً عن حقيقة الأوضاع في لبنان، كحظر سفر الأميركيين إلى لبنان، في وقت يخطو فيه لبنان وشعبه خطوات واسعة في سبيل إكمال مسيرته السياسية والأمنية والاجتماعية، وفي وقت يعمل فيه الشعب، بكل فئاته وعناصره، لإنجاح عملية نهوضه الاقتصادي لكي يلعب دوره البناء في مسيرة تقدم البشرية وإعلاء شأن الإنسان في كل مكان من العالم.
أيها السادة،
أتمنى لكم إقامة طيبة في ربوع وطنكم لبنان، وانقل إليكم تحيات دولة رئيس مجلس الوزراء الأستاذ رفيق الحريري، وأرجو أن تعود هذه الزيارة على لبنان بالخير وبأمل جديد.
اوتيل البريستول
بيروت في 9 تشرين الثاني 1994