كلمة الوزير السنيورة في الرابطة الثقافية حول الثقة بالدولة والموازنة

-A A +A
Print Friendly and PDF

 

أيها الأصدقاء،

 

حين قبلنا تحمل المسؤولية منذ ما قبل عامين، كنا نعلم حجم الكارثة التي لحقت بلبنان، وكنا ندرك عظم المسؤولية التي سنواجهها، ومقدار العمل والجهد الذي ينتظرنا، وكنتم تستعظمون، وكنا معكم، فداحة الخسائر التي حلت بالاقتصاد، والدمار الذي طال البنية التحتية الأساسية. وكنتم، ونحن معكم، تستفظعون الانهيار الذي أصاب الطبقات الاجتماعية، وخاصة الطبقة الوسطى، والذل والقهر والهوان الذي تعرض له الإنسان اللبناني خلال الأحداث، وفقدان الثقة بالدولة، والتشوه الذي لحق بصورة المجتمع اللبناني وبالوطن، حتى بات النموذج اللبناني مضرب المثل بين الأوطان في الفوضى والخطر والانقسام. وبكلمة، كنا على عتبة الخروج من حرب طويلةٍ طويلة مدمرة، كان علينا تحمل نتائجها بكل أثقالها وأوزارها وتبعاتها، وبالتالي، كان القبول بتحمل المسؤولية في مثل تلك الظروف التي تعلمون، وفي ظل الانقسامات الداخلية، وتدهورالعملة، والانهيار الاقتصادي والاجتماعي ضرب من المغامرة. ولكن كانت لدينا قضية كبرى، هي قضية الشعب اللبناني بأسره: إزالة آثار الحرب، ومن ثم الانطلاق بعملية النهوض الاقتصادي وإعادة البناء والاعمار. وهذه القضية لم تغب عن بالنا يوماً، ونحن ما زلنا ملتزمين بها ونتحمل برضى عبء مسؤوليتها، ولن نترك لأية أمور جانبية، كما يريد البعض، أن تشغلنا عنها، أو أن تصرفنا عن التركيز عليها أو الاهتمام بها.

 

   ولقد استطعنا بفضل هذا الشعب والجهود الجبارة للمواطنين وجهود القطاع الخاص ومبادراته الجريئة والمسؤولين والحكومات المتعاقبة منذ اتفاق الطائف أن نحقق الكثير من الانجازات، على صعيد الأمن، واستعادة الثقة بلبنان وانفتاحه مجدداً على العالم، ومجابهة الاقتصاد غير الشرعي، وتأمين الاستقرار المالي والنقدي ما لا يمكن لعادل أو منصف أن ينكره. وهذا لا يعني إطلاقاً، إننا أنجزنا ما كنا نصبو إليه، أو ما كان يطمح إليه اللبنانيون، فنحن نعترف، مع كل ما حققناه، إننا ما زلنا في بداية الطريق وما زال أمامنا الكثير لنقوم به، ولكن أصبحت طريقنا واضحة للسير قدماً في تحقيق الأهداف التي وضعناها نصب أعيننا، وهي الأهداف نفسها التي يريدها الشعب، والتي انعقدت عليها إرادات اللبنانيين جميعاً: إزالة آثار الحرب، وطي هذه الصفحة السوداء من تاريخ الوطن، وبناء الدولة الحديثة، والنهوض بالمجتمع، وتوفيرالحياة الحرة الكريمة لمواطنينا وأبنائنا، واستعادة دور لبنان المالي والاقتصادي والثقافي، والانطلاق بعملية النهوض والبناء والاعمار، ومن ثم العودة إلى أجواء المحبة والوفاق والتسامح والألفة، وإحياء التقاليد اللبنانية العريقة الأصيلة التي كانت دائماً تميز الحياة اللبنانية وتطبعها بطابع خاص.

 

   ونحن على يقين أن أمامنا اليوم طريقان للتعامل مع قضايانا الاقتصادية: فإما أن نلجأ إلى إتباع سياسة التقشف وضغط الإنفاق إلى حده الأدنى، وزيادة الرسوم والضرائب، بما لهذا المزيج من السياسات من انعكاسات سلبية على الوضع الاجتماعي والنمو الاقتصادي، وهذا ما لا تستطيع أن تتحمله الطبقات الشعبية الخارجة من الحرب والتي تشكو من شح المداخيل وشدة الحاجة، وإما أن ننطلق بعملية الإنفاق الاستثماري من خلال مشاريع إنتاجية، تحرك عجلة الاقتصاد وتشجع توظيف الأموال وتسرع النمو في المدى المتوسط والبعيد وتزيد واردات الدولة، وهذه الطريقة التي تعتمد طرح برنامج إنمائي واستثماري هي الطريقة الفضلى، وان لم تكن السهلة، لان إنجاحها يتطلب اعتماد سياسات مالية واضحة ومحددة، وسياسة اقتراض سليمة ورصينة وواعية، تأخذ بعين الاعتبار تطور الأوضاع الاقتصادية والمالية والسياسية في لبنان والمنطقة، وبحيث يكون لهذه المشاريع جدواها الاقتصادية وتأتي نتائجها محققة للغايات والأهداف المرسومة، كما تتطلب جهوداً جبارة وانكباباً على العمل وجدية ومسؤولية وتعاوناً مخلصاً بين كل المسؤولين على مختلف المستويات، ومشاركة فاعلة من قبل كل اللبنانيين ولاسيما من القطاع الخاص بمختلف قطاعاته الإنتاجية، إلا أن هذه الطريقة لا بديل منها إذا ما أردنا معالجة المشكلة الاقتصادية والاجتماعية، ولان البديل الآخر ليس سوى الوقوع في هاوية الجمود والمراوحة، وان الجمود في ظل المتغيرات والتحديات المتوقعة والتطورات الجارية معناه التراجع والتخلف عن ركب التطور والحضارة.

 

   ولذلك، لم يعد من الجائز أن نبقى أو أن نستمر على نفس الوتيرة في معالجة الأمور والتصدي للمشاكل الصعبة التي تعيق عملية النهوض الاجتماعي والاقتصادي، بل علينا أن نبدأ بالبناء الجاد والحقيقي، وهذا ما دفعنا إلى وضع موازنة غير تقليدية تتضمن برامج إنمائية ومشاريع حيوية يحتاج إليها المواطنون، وتلبي حاجات المناطق اللبنانية التي ذاقت سنوات طويلة من الحرمان حتى بات أهلها يشعرون وكأنهم خارج الوطن.

 

   وكانت غاية الحكومة من إدخال مشاريع البرامج ضمن الموازنة العامة وضع مجلس النواب والشعب اللبناني وبشكل واضح، في صورة الحاجات الحقيقية للبلاد على مدى السنوات القادمة، لجهة المشاريع المنوي القيام بها، كما لجهة الكلفة المالية، والتأكيد على الالتزام القانوني للحكومة بتنفيذها، سنة بعد سنة، تحت رقابة المجلس، وتحت أنظار كل اللبنانيين، وأرادت الحكومة أن يكون هذا البرنامج محل حوار ونقاش حر ديمقراطي مفتوح، يشترك فيه كل اللبنانيين ولاسيما انتم، الفعاليات الاقتصادية، لنختار معاً أفضل السبل لبلوغ المقاصد، ولكي نتفق على الأولويات، ونساهم جميعاً في مسؤولية النهوض بالوطن، وهي مشاريع لا بد منها، إذا ما أردنا الخروج من حالة المراوحة والجمود، وهي مشاريع لا بديل منها، إذا ما أردنا معالجة مشاكل البلاد الاقتصادية والاجتماعية والمعيشية، وهي مشاريع لا غنى لنا عنها، إذا ما أردنا أنيكون لنا مكانة وموقع ودور في محيطنا العربي، كما في العالم اجمع.

 

   ولا أريد أن ادخل في الجدال الذي دار حول ملاءمة أو قانونية لحظ هذه القوانين البرامج في صلب مشروع الموازنة، فالحكومة اجتهدت في ذلك، وكان للكثيرين من أعضاء مجلس النواب رأي آخر، وهذه مسألة شكلية، لا أريد أن أتوقف عندها، ما يهمنا هو المضمون والجوهر، والجوهر الذي نسعى إليه هو توفير الخدمات الحياتية الأساسية للمواطن اللبناني، وتحسين دخله، ورفع مستوى معيشته، وإزالة آثار ما خلفته الحرب من خراب ودمار، وتأمين فرص العمل للشباب اللبناني، لكي يتفتح أطفال لبنان على صورة جميلة براقة ومشرقة لبلدهم تنير طريق المستقبل الواعد أمامهم. وقد بدأت الحكومة بالاتفاق مع مجلس النواب، إرسال مشاريع قوانين منفصلة إلى المجلس تشكل بمجموعها البرنامج الإنمائي المقترح للسنوات المقبلة.

 

   إننا نعول على القطاع الخاص، عليكم، أهمية كبيرة في عملية النهوض الاقتصادي من خلال مشاريع إنتاجية وإنمائية من شأنها إنعاش الاقتصاد وتفعيله وتحريك عجلة العمل والإنتاج في البلاد، ويؤدي إلى استقطاب رؤوس الأموال، وتشغيل القطاعات الاقتصادية المختلفة ويتيح لها فرصة الدخول في سوق المنافسة الخارجية، وإننا نرى مصلحة كبيرة للبلاد وللاقتصاد الوطني، وللقطاع الخاص بالذات، باعتباره ركيزة هذا الاقتصاد، في أن يرى هذا البرنامج الإنمائي النور في أسرع وقت.

 

   وكما تعلمون فإن الموازنة العامة للدولة تعكس في هيكليتها مشكلة الاقتصاد اللبناني بأدق تفاصيلها، ويتبين لنا من استعراض الخطوط العريضة لمشروع موازنة 1995 الحقائق الآتية:

 

تحليل لهيكلية مشروع موازنة 1995:

إن أرقام مشروع موازنة 1995 تعكس مدى أهمية التركيز على البرنامج الإنمائي كوسيلة لاستعادة الاقتصاد اللبناني عافيته وديناميته. إن الأرقام تشير وبوضوح إلى مدى تأثير الأحداث على هيكلية الموازنة العامة إذ أن النفقات والالتزامات الثابتة تشكل العبء الأكبر على الموازنة وبالتالي تحد من قدرة الدولة على التعامل بمرونة مع المستجدات الاقتصادية، فالنفقات الإجمالية يمكن توزيعها تقريبياً على الشكل التالي:

 

 

  • رواتب وأجور وعطاءات اجتماعية وغيرها من العطاءات لموظفي القطاع العام والمتقاعدين

حوالي 2000 مليار

  • الديون المتوجبة الداء والالتزامات الأخرى

حوالي 2000 مليار

  • خدمة الدين الداخلي والخارجي

حوالي 1610 مليار

  • دعم مصلحة كهرباء لبنان

حوالي 250 مليار

  • التزامات أخرى

حوالي 140 مليار

  • نفقات عامة لتسيير أعمال الدولة

حوالي 500 مليار

  • نفقات إنمائية واستثمارية

حوالي 1000 مليار

المجموع

5500 مليار

 

 

إن عدم التعاطي الجذري مع هذا الوضع سيؤدي إلى تدهور في الأوضاع الاقتصادية عامة كما سيؤدي إلى تعميق الضعف الهيكلي في الموازنة العامة.

 

من هنا تتضح أهمية تصحيح هذه المشكلة الهيكلية في الموازنة. إن هناك طريقتين للتعامل مع هذه المشكلة:

 

الطريقة الأولى ترتكز على سياسة تقشفية جذرية، أي بعبارة أخرى زيادة حادة في الضرائب والرسوم مع تخفيض في الإنفاق العام بما لهذا المزيج من السياسات من انعكاسات سلبية على الوضع الاجتماعي والنمو الاقتصادي وهو المر الذي لا يستطيع المواطن اللبناني تحمل أعبائه.

 

الطريقة الثانية ترتكز على تعزيز وتسريع النمو على المدى المتوسط والبعيد من خلال طرح برنامج إنمائي واستثماري يُفعل الاقتصاد ويزيد واردات الدولة من خلال النمو الاقتصادي وليس أساساً من خلال زيادة الضرائب والرسوم.

 

إن عدم اعتماد أي من الطريقتين السابقتين في هذه المرحلة وبالمقابل اعتماد الأسلوب التقليدي الذي جرت الدولة على إتباعه في السنوات السابقة من شأنه أن يؤدي إلى النتائج التالية:

 

  • مستويات متدنية من الإنفاق الاستثماري للقطاع العام مما يؤدي إلى استمرار الوضع المتردي للبنى التحتية اللازمة لاستقطاب الاستثمارات في القطاع الخاص وتوظيف الأموال في المشاريع الإنتاجية مما يؤدي إلى مستويات متدنية من النمو.
  • زيادة كبيرة في معدلات الإنفاق الجاري ولاسيما الالتزامات الثانية (رواتب وأجور وتعويضات ومساعدات اجتماعية والفوائد على خدمة الدين العام) بنسب أعلى من نسب نمو الدخل القومي.
  • تدني نسب الزيادة في واردات الدولة مقارنة مع نسب الارتفاع في النفقات الإجمالية ولاسيما الجارية منها مما يؤدي إلى تفاقم في عجز الموازنة العامة والذي يؤدي إلى زيادة في الدين العام وبالتالي يؤدي إلى زيادة متعاظمة من معدلات الفوائد وحجم خدمة الدين.
  • إن ظل هذه الأمور من شأنها أن تزعزع الثقة بالاقتصاد اللبناني وتضرب الاستقرار المالي والنقدي وتعيد البلاد إلى الحلقة المفرغة التي تبدأ بانهيار سعر الصرف ومن ثم زيادة كبيرة من معدلات التضخم.
  • تفاقم الأزمة الاجتماعية وتدهور الأوضاع المعيشية مع ما يترتب على ذلك من عدم استقرار في الأوضاع العامة في البلاد من مختلف وجوهها.

 

إن بناء اقتصاد سليم يتطلب عملاً دؤوباً وجهوداً جبارة كما يرتكز على إرساء القواعد التالية:

 

  • تأمين الاستقرار الأمني والاقتصادي.
  • إعطاء الحوافز الضريبية وغير الضريبية وإزاحة العقبات أمام المستثمرين من اللبنانيين ومن غير اللبنانيين بشكل يكفل وضع لبنان على نفس المستوى التنافسي مع دول العالم الأخرى من اجل اجتذاب رؤوس الأموال المحلية والعربية والدولية.
  • إعادة بناء البنية التحتية.
  • مشاركة اللبنانيين في عملية النهوض الاقتصادي وإعادة البناء والاعمار.

 

ولقد خطت الحكومة خطوات واسعة في تحقيق الأمن والاستقرار المالي والنقدي أما التشريعات الضريبية التي تحققت حتى الآن فهي مهمة جداً، فقانون ضريبة الدخل الجديد يهدف إلى توخي العدالة الضريبية وتشجيع الاستثمار لدى القطاع الخاص وزيادة مداخيل الخزينة، وذلك من خلال فرض ضرائب واقعية لا تشكل أعباء كبيرة على المؤسسات الإنتاجية بحيث تتمكن من زيادة طاقتها الذاتية في التمويل وتخفيض تكاليفها الإجمالية ورفع قدرتها التنافسية وزيادة إمكانياتها الإنتاجية وتوفير فرص عمل لعشرات الآلاف من الشباب اللبنانيين الذين يدخلون سوق العمل كل سنة. إن الحكومة تعتقد أن هذا القانون سيزيل عن كاهل ذوي الدخل المحدود أعباء كبيرة ويؤدي إلى زيادة حقيقية في دخلهم، كما أنه سيوفر فرصاً مجدية للمستثمرين ويحقق لهم ميزات تفاضلية في لبنان بالمقارنة مع بدائل في أقطار أخرى، ويدفع بالنتيجة بعجلة الاقتصاد اللبناني إلى الأمام. هذا فضلاً عن أن مجلس النواب قد أقر قانون ضريبة الأملاك المبنية وضريبة رسم الانتقال، واللذان يلحظان تخفيضات هامة على المعدلات الحالية ووفقاً لنفس الأسس التي اعتمدت في قانون ضريبة الدخل. ومما يؤدي إلى المساهمة في حل المشكلة الإسكانية التي يعاني منها اللبنانيون كافة. وهذه الحكومة فهي تدرك أيضاً أن الاستثمار وبدء عملية النهوض الاقتصادي بحاجة إلى بنية تحتية وتوفير خدمات متنوعة. ولقد دأبت الحكومة على وضع مخططات إعادة بناء البنى التحتية وتطويرها لكي تلبي حاجات لبنان المستقبلية وهي عبارة عن برنامج للإنفاق التنموي، يمثل رؤية وتطلعات هذه الحكومة للمستقبل والمسار الذي تريد أن تسلكه، ويهدف إلى تأمين البنية التحتية المادية من كهرباء واتصالات ومياه وصرف صحي ونفايات وطرقات ونقل مشترك وتطوير المطار والمرافئ، كما يهدف إلى تأمين البنية الاجتماعية من تعليم وصحة وتنشيط القطاعات الإنتاجية من زراعة وصناعة وخدمات وسياحة، فضلاً عن تعزيز قدرة بنك الإسكان على التمويل بزيادة موارده بمبلغ 100 مليون دولار، وتفعيل بنك الإنماء الصناعي والسياحي وتحريك عجلة العمل في بورصة بيروت وسعي الحكومة لدى مؤسسة التمويل الدولية، ولبنان عضو فيها، لتوفير قروض إضافية طويلة الأمد للقطاع الخاص ولاسيما المؤسسات الصناعية والسياحية.

 

إن هذه الرؤية الشاملة لمعالجة الوضع الاقتصادي الاجتماعي على المديين المتوسط والطويل ترافقت أيضاً مع إجراءات للحكومة على المدى القصير. فلقد أولت الحكومة اهتمامها بالقضايا الاجتماعية إذ أن الاعتمادات المخصصة في موازنة عام 1994 للقضايا الاجتماعية بما فيها التربية بلغت حوالي 1540 مليار ليرة لبنانية أي حوالي 38% من إجمالي الموازنة. أي ما يفوق ثلاثة أضعاف ما كان عليه المجموع في موازنة 1992.

 

واهتمت الحكومة أيضاً بأوضاع الموظفين المعيشية بأسلوب علمي واقتصادي مدروس يؤدي إلى التخفيف من الأعباء المعيشية والتحسين في القوة الشرائية لدخلهم ويجنبهم الدخول الحتمي في حلبة السباق التي لا تنتهي بين الأجور والرواتب من جهة والأسعار من جهة أخرى.

طرابلس 18/12/1994

التاريخ: 
18/12/1994