كلمة الوزير فؤاد السنيورة في عشاء نقابة موظفي المصارف

-A A +A
Print Friendly and PDF

أيها السيدات والسادة،

لعل أكثر ما يثلج صدري ويدخل الراحة إلى نفسي في هذا اللقاء هو شعوري بالانتماء، الانتماء إلى القطاع المصرفي العزيز على قلبي، والذي تمثله نقابتكم ، نقابة موظفي المصارف، التي أرادت أن تقيم هذا الحفل تحت رعاية دولة رئيس مجلس الوزراء الأستاذ رفيق الحريري الذي يقدر ما للقطاع المصرفي لاسيما في المرحلة الحالية الدقيقة التي يمر بها لبنان من دور ريادي ومسؤول، في عملية إعادة البناء والاعمار، وفي إنجاح برنامج النهوض الاقتصادي وفي المساهمة في بناء نظام مالي ونقدي سليم.

أيها المصرفيون،

لكم أن تفخروا في أن قطاعكم قد صمد بوجه الصعوبات والمخاطر، لكم أن تفخروا لان قطاعكم قد استمر وحافظ على صدقيته وعلى مناقبيته وعلى حقوق المودعين، على الرغم من الضغوط والتهديدات التي طالت المؤسسات المصرفية وأصحابها والعاملين فيها، وهو في جحيم الحرب العبثية، وفي أحلك الظروف وأشدها عنفا وشراسة لم يتوقف يوما عن العمل، وفي ظل الانقسامات والصراعات، لم ينقسم، بقي محافظا على وحدته، أمينا على رسالته، ضامنا لأموال الناس ومصالحهم، ومتمسكا بالسرية المصرفية التي تعتبر حجر الزاوية في ازدهار الاقتصاد اللبناني وفي تعزيز الثقة بالقطاع المصرفي والوضع النقدي في لبنان. ولقد استطاع هذا القطاع أن يتجاوز حالة التردي والتعثر في بعض مؤسساته نتيجة دخول بعض المغامرين على هذا القطاع، كما أن التدابير التي اعتمدتها الدولة والإجراءات التي اتخذها مصرف لبنان وهيئة الرقابة على المصارف قد حالت دون ضرب الثقة بهذا القطاع الحيوي.  ولعل النظام الاقتصادي الحر الذي نعم به لبنان، والذي كان ولا يزال الدعامة الأساسية لتطور الاقتصاد اللبناني، كان له الأثر الكبير في التغلب على المحن والصعوبات التي قاساها.

ولكن لا يجوز لنا على الإطلاق أن نركن إلى ما حققه القطاع المصرفي من نجاح وازدهار في المرحلة السابقة، فإذا كنا قد انتصرنا على ما قد فات، فعلينا أن نتحضر لما هو آت، والآتي القريب يحمل إلينا تحديات لا قبل لنا على مجابهتها إذا لم نحدث ثورة في البنية المصرفية الإدارية والفنية والتجهيزية، فلقد دخلنا عصرا جديدا من أولى شروط مواكبته توفير العناصر والكفاءات المصرفية التي تتمتع بمهارات متميزة، وتأمين تقنيات عالية في وقت أصبح فيه الحصول على تلك التقنيات أمرا بالغ الكلفة والتعقيد، وفي زمن سيكون للمنافسة القائمة على الفعالية الإنتاجية الدور الحاسم في نجاح أو فشل أية مؤسسة مصرفية.

ولقد بات من الضروري أن يصار إلى تعزيز وتطوير الإدارة المصرفية على كل المستويات والعمل على ايلاء التدريب وإعادة التأهيل في العمل المصرفي الأهمية التي يستحقها، على أن يقترن ذلك بالانضباط والتحلي بمسلكية خلقية ومهنية رفيعة المستوى، ولاسيما، غلى صعيد الالتزام الكامل بالسرية المصرفية التي تتحصن بالممارسة المسؤولة والمنضبطة، والتي تعتبر إحدى ميزات اقتصادنا التفاضلية الأساسية، وسمة بالغة الأهمية من سمات اقتصادنا الحر.  ولعل موضوع عصرنة مؤسساتنا المصرفية هو أمر في غاية الأهمية، إذ لم يعد بإمكان الجهاز المصرفي أن يبقى غائبا أو بمنأى عن التقنيات الحديثة وأساليب العمل المتطورة التي بدأت تغزو جميع القطاعات في لبنان بعد أن أحست أمرا طبيعيا في خارجه، وبعد أن أصبحت العصرنة واقعا أساسيا في كافة المؤسسات المصرفية التي على أساسها تكون النتيجة في سوق المنافسة.

ونحن ندرك تماما أن المؤسسات المصرفية لا يمكنها أن تنمو ويتعزز وضعها في ظل وضع اقتصادي مترد، ولذلك فقد عملت الحكومة منذ تشكيلها على تفعيل النشاط الاقتصادي وتحريك عجلة الاقتصاد، فاتبعت سياسة الخفض التدريجي لمعدلات الفوائد على سندات الخزينة وعلى الودائع المصرفية بالعملة اللبنانية والعملة الأجنبية تحقيقا للتوازن ما بين هدفي تعزيز الاستقرار النقدي وتفعيل الاقتصاد. ونجحت الحكومة، بفضل الجهود المضنية التي بذلتها في إعادة الثقة بالعملة الوطنية وتحقيق تراجع تدريجي لحدة الدولرة، وإعادة تعزيز احتياطي مصرف لبنان من العملات الصعبة، وتحسين مستوى إدارة المالية العامة، سواء لجهة تحسين الجباية أو الخفض التدريجي للإنفاق غير المجدي والتوجه نحو الإنفاق الاستثماري، وهي ماضية قدما في سياستها الرامية إلى تعزيز الأمن وتأمين الاستقرار المالي والنقدي ووضع التشريعات المالية الملائمةللاستثمار وتوظيف الأموال في لبنان وإعطاء الحوافز الضريبية وإعادة بناء البنية التحتية وتسهيل وتشجيع المشاريع الإنتاجية، وكل ذلك يصب بصورة خاصة، في تحسين القطاع المصرفي وتعزيز دوره ومكانته، كما يصب في تنشيط سائر القطاعات الإنتاجية وإطلاق عجلة الاقتصاد اللبناني.

أيها السيدات والسادة،

نحن نعلم حاجات شعبنا ومعاناته ونعيش همومه وما يكابده، ونقدر له الآمال التي يعلقها على هذه الحكومة بعد ما أصابه من ويلات الحرب وشرورها، ونحن نعمل بكل طاقاتنا لنخفف عنه معاناته ونرفع مستوى معيشته، ولكن قدرات الدولة وإمكانات الاقتصاد اللبناني لا تمكننا من معالجة كل المشاكل المتراكمة مرة واحدة وبطرفة عين من الزمن، ولكن لا بد واصلون إلى غاياتنا، ونحن مضطرون أن نراعي بين حاجات اليوم ومتطلبات المستقبل، فلا تكون الثانية على حساب الأولى فنرهق شعبنا ونزيد المشكلة الاجتماعية، ولا تكون الأولى على حساب الثانية، فنربح كسبا جماهيريا مؤقتا لا نسعى إليه فنخسر المستقبل ودورنا في المنطقة ويتجاوزنا الزمن ونتخلف عن ركب التطور ونغرق في بحر من الأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي لا نجاة ولا قيامة لنا بعدها، فنحن بقدر ما نعمل ليومنا نفكر ونعمل لغدنا، وواجبنا، والأمانة تقضي أن نصارح شعبنا ونطلعه على حقيقة أوضاعنا.

لقد آن الأوان لتحمل المسؤولية، آن الأوان للعمل بجدية. لم يعد مسموحا التعامل مع الأمور بخفة أو باستخفاف، لم يعد جائزا تحميل الاقتصاد أعباء ثقيلة ابتغاء كسب سياسي، لا يلبث، وفي مدى منظور، أن ينعكس سلبا على مستوى معيشة المواطنين، ويجهض مسعى الحكومة الدائب في لجم التضخم وتقليص عجز الموازنة، وزيادة فرص النمو سنة بعد سنة. إن التحديات باتت تطرق أبوابنا بقوة، وما لم ننهض جميعا للتصدي لها، بالعمل والإنتاج والترفع عن المصالح الشخصية والضيقة التي تتحكم بمواقفنا وتصرفاتنا، فلن يكون لنا الوطن الذي نريد، ولن ينتظرنا قطار التقدم والنمو الذي يسير بسرعة قياسية، في ظل متغيرات تشهد سباقا وتنافسا حادا بين الدول في شتى المجالات، ونجاحنا بنهاية المطاف مرهون بإرادتنا وبموقفنا من مشروع بناء الدولة الحديثة.

ولا تبنى الدولة إلا بالعمل الدؤوب، فلقد بات العمل قيمة بحد ذاته ويجب أن نعلي شأنه، فبالعمل نزيد الإنتاج، وبالإنتاج نحرك عجلة الاقتصاد ونسرع الخطى في حل العديد من مشاكل عمالنا الاجتماعية والمعيشية، فليس عبثا" أن أقام العالم عيدا" للعمل يحتفل به سنويا"، وليس المقصود منه تكريم العمال وتقديرهم على نتاجهم وتضحياتهم فحسب، أو لفت النظر إلى حقوقهم وصيانة أوضاعهم فقط، ولكن التأكيد على أن العمل هو أيضا" قيمة إنتاجية، وقيمة اقتصادية، وقيمة اجتماعية، وقيمة إنسانية، وقيمة أخلاقية، وان الأوطان تبنى بسواعد عمالها.  واني لأنتهز هذه المناسبة لأتمنى لعمال لبنان رغد العيش وطمأنينة البال، ولسنا لهم بتاركين، ولكن معهم وبهم سنحقق الآمال.

أيها المصرفيون،

أردتم إحياء تقليد سنوي أرخت عليه الأحداث سدول الظلمة والنسيان سنين طويلة، وباتت النفوس اليوم تواقة لاستعادته والقلوب مشوقة إلى بعثه من جديد. لقد كنتم وأثبتم دائما أنكم أسرة واحدة وعائلة واحدة، يجمعكم هذا الوطن الغالي وتربط بينكم أواصر الصداقة والمحبة والحياة الواحدة المشتركة، وانتم الآن، بلقائكم، تعيدون للبيت اللبناني الذي يضمكم بين جدرانه وأركانه، وحدته وبسمته وبهجته وتنشرون الفرح في أرجائه.

 

أرجو لكم قضاء سهرة ممتعة، 

عشتم وعاش لبنان،

 والسلام،

 

بيروت في 30 نيسان 1994

  أوتيل البريستول      

     

التاريخ: 
30/04/1994