الرئيس السنيورة في مقالة بجريدة النهار: اليس الصبح بقريب؟

-A A +A
Print Friendly and PDF
العنوان الثانوي: 

نشرت جريدة النهار في عددهل الصادر اليوم على صفحتها الاولى مقالة للرئيس فؤاد السنيورة لمناسبة الذكرى الـ 80 للاستقلال بعنوان:" اليس الصبح بقريب؟"

وفي ما يلي نص المقالة:

يطل عيد الاستقلال على اللبنانيين هذا العام ليثير لديهم الذكريات والحنين إلى أيام اجتمعت فيها إرادتهم على إنشاء دولة مستقلة وسيدة قوامها الحرية والديموقراطية والعدالة والمساواة، وأساسها العيش المشترك الجامع بين اللبنانيين على مختلف طوائفهم وانتماءاتهم في إطار من الوحدة والتفاهم الوطني والتضامن الاجتماعي. ذلك ما أسهم في جعل لبنان منارة للثقافة والانفتاح والاعتدال والنجاح، وقبلة أنظار الدول القريبة والبعيدة التي تسعى شعوبها إلى التقدم والازدهار والعيش الكريم، والطامحة لأن يكون لها مكانة ودوراً في الحضارة العالمية.

هذه المكانة الرفيعة أكّد عليها اتفاق الطائف الذي أنهى الحرب الداخلية اللبنانية على أساس أنَّ لبنان وطن سيّد حر مستقل، وطن نهائي لجميع أبنائه، وأنّ لبنان عربي الهوية والانتماء. كما أكّد على أهمية جمع اللبنانيين على إعادة بناء دولتهم السيدة والعادلة والقادرة والقائمة على الانفتاح على الأشقاء العرب وعلى الأصدقاء في العالم، وعلى قوة التوازن فيه، وليس على أساس توازن القوى المتغيّر، وعلى قواعد إعلاء شأن الكفاءة والجدارة والتميز ومكافأة الأداء الجيد.

إلاّ أنّ طموح اللبنانيين ما لبث أن اصطدم بمعوقات كثيرة- داخلية وخارجية- أدخلت لبنان من جديد في أتون نزاعات واضطرابات داخلية، بل وتدخلات وحروب إقليمية، عانى منها لبنان ولايزال الكثير، وأثرت تأثيراً كبيراً على مسيرة نهوضه السياسي والاقتصادي والاجتماعي والحضاري، وانعكست على وفاقه الوطني، وأضعفت الدولة في حضورها، وفي دورها الوطني الجامع، وأدّت إلى أن يخسر لبنان الكثير من قدراته المادية والإنسانية وميزاته التفاضلية، وأن تتقلص مكانته وسمعته بين الدول وفي محيطه العربي والدولي.

إنَّ لبنان، وفي ذكرى استقلاله الثمانين قد وصل اليوم إلى مرحلة غير مسبوقة، فهو الآن في صميم الحرب الدائرة في المنطقة، وفي ظل احتلال وعدوان إسرائيلي دموي وتدميري متمادٍ على فلسطين والفلسطينيين، والتي لم يُعِدَّ لبنان نفسه لمواجهتها او للانخراط فيها. وهو في صميم الأزْمة الوطنية والسياسية والاقتصادية لمرور اكثر من سنة على عدم انتخاب رئيس للجمهورية وعدم وجود حكومة كاملة الاوصاف وبسبب انهيار اقتصادي ومالي اجتماعي ومعيشي طاحن وهي من القضايا التي لا يجري البحث عن حلولٍ وممارسات مسؤولة لمعالجتها بشكلٍ صحيح وناجع، وهو يعاني من انقطاع الصلات الوثيقة والمفيدة مع المجتمعَيْن العربي والدولي، وذلك كلّه بما أصبح يثير القلق لدى اللبنانيين على البنية الوطنية الجامعة، وبات يهدِّد الاستقلال ويهدّد وجود الدولة اللبنانية الوطنية.

هذا الوضع الخطير أصبح يوجب على اللبنانيين، وإلى أي فئة أو طائفة او مجموعة سياسية انتموا، أن يستفيقوا من هذا الكابوس، وأن يُدركوا أنّ لا خلاص لهم مما أصبحوا فيه إلاّ باستعادة الاعتبار والاحترام للأسس التي بنيت عليها الدولة اللبنانية، والتي اجتمعت من أجلها تلك القوى الوطنية التي أحرزت الاستقلال في ذلك اليوم المجيد من العام 1943.

إنَّه، وعلى الرغم من عظم هذه المخاطر والتحديات، فإنني لاأزال عظيم الإيمان بأن اللبنانيين الذين تميّزوا عبر تاريخهم العريق بحيويتهم ومبادراتهم الخلّاقة وقدرتهم على النهوض من تحت الركام في ظل الظروف الصعبة والخطيرة، التي يمر بها لبنان، لن يستسلموا أمام تلك التحديات، ولن يتقاعسوا أمام المخاطر الداخلية والخارجية التي تعصف بهم، بل سوف يقُدّوا من الضعف قوة، ومن الفرقة وحدة. ذلك أنهم برهنوا في الماضي أنهم كلما اشتدّت عليهم المخاطر وعصفت بهم المحن، كلما كانوا أكثر وعياً وإدراكاً لمصالحهم الحقيقية، وتشبثاً بوطنهم، وبفرادة وأهمية عيشهم المشترك والواحد، وبنظامهم الديموقراطي الحر، وأهمية استمرار احترامهم للشرعيتين العربية والدولية، وهو ما يشكِّل بمجموعه ضمانة لاستقلالهم ولسيادتهم ولحريتهم ووجودهم.

لذلك، فإنهم- وبإذن الله- واستناداً إلى إيمانهم العميق بوطنهم قادرون معاً على لم شمل بعضهم بعضاً من خلال عودة ثابتة ومثابرة للتمسّك بوحدتهم الوطنية، وإصرارهم على تحييد وطنهم عن الصراعات الإقليمية والدولية، والعمل معاً بإرادة وطنية جامعة ومتبصرة من أجل إنقاذ لبنان، ولإعادة بناء الدولة الجامعة التي يستطيعون من خلالها المحافظة على وطنهم، وعلى وحدتهم، وبما يُمكِّنُهم من استعادة وتعزيز ما كان للبنان من دور وقيمة ومكانة ثقافية واقتصادية وإنسانية وعربية ودولية.

فلتعد إلى روح لبنان ما يجمع اللبنانيين من محبة للبنان، وأن تعود إلى اللبنانيين سمو حياتهم المشتركة، وأن يعود اللبنانيون إلى إدراك حقيقة وأهمية مصالحهم المشتركة التي تُعزِّزُ مستقبلهم الوطني الواعد، والبناء على ما في لبنان من غنى حضاري يميّزهم، في هذا العالم غير المستقر. وليؤكدوا لأنفسهم أولاً وللعالم أجمع أنّ لبنان يستحق الحياة، وأن اللبنانيين يستحقون أن يعيشوا في هذا الوطن حياة أفضل كإخوة متحابين، تجمعهم قيم الحق والعدالة والمساواة والانفتاح والاعتدال والتنافس من أجل خير الوطن. الخير الذي ينير دربهم وعيشهم المشترك الإسلامي/ المسيحي، المحصن بقيم الإيمان والإنسانية القائمة على مفهوم السلام والمحبة وقبول الآخر.

عيد الاستقلال هو مناسبة لنستذكر جميع شهدائنا الذين سقطوا دفاعاً عن استقلال وسيادة وحرية لبنان، وهو أيضاً مناسبة للعودة إلى الأصول الواجب التمسك بها والتي تحمي لبنان، وإلى الدولة السيّدة، الحرّة، والمستقلة، إلى لبنان الوطن الجامع، إلى حسن واستكمال تطبيق اتفاق الطائف.

إنَّ أشد ساعات الليل حلوكاً هي تلك اللحظات التي تسبق انبلاج الفجر: "أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ".

تاريخ الخبر: 
22/11/2023