رجل الدولة ودولة الرجل
اليوم ومع تسلّم سعد الحريري سدّة رئاسة مجلس الوزراء،لا بدّ من أن نتذكّر من وُجدَ في هذا المنصب لأربع سنوات في واحدة من أصعب المراحل وأدقّها في تاريخ لبنان الحديث.تسلّم فؤاد السنيورة سدّة رئاسة الحكومة في 30 يونيو من العام 2005، أيّ بعد خمسة أشهر على إغتيال الرئيس رفيق الحريري. ويومها كانت البلاد تعيش مرحلة أقلّ ما يقال عنها أنّها غاية في الدّقة والخطورة،ومرحلة إنتقالية تجسّد للبنان جديد مستقلّ يحكم من أهله،بعد وصاية سوريّة إستمرّت ثلاثين عاماً.
تسلّم فؤاد السنيورة الحكم في يوليو،بعدما كان رفيق الحريري قد أُغتيل في 14 فبراير وتوفّي باسل فليحان في 18 إبريل إثر معاناة من الحروق التي ألمت به جرّاء عملية الإغتيال.وقُتلَ سمير قصير في 2 يونيو وجورج حاوي في22 يونيو.أوّلاً،ما أصعب أن يوجد المرء في موقع كان يشغله أقرب الناس إليه وصديقه منذ حوالي أربعين سنة.وما أصعب أن يؤتمن المرء على إرث رفيق الحريري،في وقتٍ كان يحاول كثيرون محو هذا الأثر!وما أصعب أن ننجز من بعد رفيق الحريري.هذا فضلاً عن الإنقسام الحاد الحاصل في البلاد جرّاء وجود فريقي 8 و14 آذار.الأوّل يحمّل كل ما يجري في البلاد لإسرائيل ويخوّن الفريق الثاني،و14 آذار يحمّل سورية كلّ المسؤولية. وبعد هذه المقدّمة، لا بدّ أن نستعرض كم تحمّل فؤاد السنيورة وصبر وجالد وكابر على الألم والحقد. وتغلّب على العرقلة والمناكفات، واجتاز الأزمات بصلابة ورباطة جأشٍ لا مثيل لهما.
ودعونا نتذكّر....لعلّ الذكرى تنفع
تزامن تسلّم الرئيس السنيورة مهامه،مع إغلاق سورية حدودها البريّة مع لبنان،بحجّة أن لبنان يقوم بتهريب أسلحة لزعزعة أمن وإستقرار دمشق.فكم كبّد ذلك المصدّرين من خسائر،لا سيّما تجّار الفاكهة والخضار.وكم سمعناهم يشكون تلف بضاعتهم وخسارتهم.وما لبث هذا الوضع إن سُوِيَّ،حتّى قامت البلاد وقعدت عندما أصدر المحقق ديتليف ميليس مذكّرة تقضي بتوقيف كلّ من جميل السّيد ومصطفى حمدان وعلي الحاج وريمون عازار بجرم الضلوع بعملية إغتيال الرئيس الحريري.فدارت من جديد أسطوانة التخوين والتواطؤ، وعاد الكلام عن تسييس التحقيق للنيل والإنتقام من فريقٍ عُرف عنه علاقته الوطيدة بسلطة الوصاية السورية.وبعدها وبالتزامن مع صدور تقرير ميليس وخلال خطابٍ ألقاه في جامعة دمشق، وصف الرئيس السوري الرئيس السنيورة بأنه ليس سوى "عبد مأمور لعبد مأمور"،إشارة إلى علاقته بالرئيس شيراك وعلاقة الأخير بالولايات المتحدة الأميريكية.ويومها إنسحب وزراء "8 آذار" من جلسة مجلس الوزراء الأسبوعية لمجرّد رفضهم إصدار بيان يستنكر التّعرّض لرئيس حكومة لبنان،بحجّة أنّ هذا البند لم يكن مدرجاً على جدول أعمال الجلسة!وحينها وخلال إفتتاحه معرض"إقرؤا بالفرنسية"،إكتفى الرئيس السنيورة بالقول وبأعصابٍ باردة "إقرؤا بالفرنسية واسمعوا الموسيقى الفرنسية واستمتعوا....".في الثاني عشر من ديسمبر وبينما كنّا نتوقّع اننا سننهي العام بهدوء،هزّت لبنان جريمة بشعة هي إغتيال جبران تويني،الذي تناثرت جثّته أشلاءً في منطقة المونتفردي.ويا ليت رهبة الموت وبشاعة تطاير اللحم ردعت أحداً من الفريق الآخر،بل على العكس هناك من علّق قائلاً"إذا مات كلباً في لبنان يريدون إنشاء محكمة دولية له"!وتابع مسلسل محاولة تفشيل السنيورة.فنذكر عملية الإعتداء على السفارة الدنماركية بحجّة الرسوم الكاريكاتورية المسيئة للإسلام،ما أدّى إلى إستقالة وزير الداخلية حسن السبع.إلا أن الرئيس السنيورة عرف بحنكته وطول باله كيف يحافظ على تماسك حكومته وإستقرار البلد.
وتجددت الثقة العربية بلبنان وعاد تدفّق الإستثمارات وانتعش القطاع العقاري،وتضاعف عدد السياح،وشهدنا بداية صيف فرح .حتى أنني أذكر أن رجل أعمال سعودي قال لي،أخطأ من ذهب لحضور المونديال في ألمانيا،المونديال هنا في بيروت!حتى ظنّنا أنّ صيفنا بدأ وسينتهي مزدهراً.وفعلاً هذا ما حصل لغاية الأربعاء الواقع في الثاني عشر من يوليو.صباح ذاك اليوم أفاق لبنان على خبر تخطّي عناصر من "حزب الله" الخطّ الأزرق وخطف جنديين إسرائيليين وقتل ثمانية. ويومها علّق الرئيس السنيورة للمجتمع الدولي، قائلاً:"ليست الحكومة اللبنانية آخر من تعلم وأوّل من تُطالب".وعلى أثر هذه العملية شنّت إسرائيل حرباً ضروس على لبنان قطّعت أوصاله وأعادته 15 عاماً إلى الوراء وأدّت إلى مقتل آلاف الأشخاص وخلّفت أضراراً بحوالي 4 مليار دولار.إلا أن فؤاد السنيورة لم يجد أن الوقت يسمح بتقاذف الإتهامات والبلد يحترق، والسؤال من بدأ أوّلاً وجرّ البلاد إلى الويلات والخراب والدمار.وكان جلّ همومه أن لا يظهر لبنان لدى الرأي العام الدولي ك"بلدٍ معتدٍ" بل بلدٍ يتعرّض للإعتداء.فاستنفر كلّ طاقاته لتوقيف آلة القتل والدمار،والخروج من هذه الحرب بأقلّ خسائر ممكنة.وطبعاً لا ننسى الجهود الجبّارة التي بذلها النائب سعد الحريري متنقّلاً من دولة إلى أخرى.يومها لم يفصل السنيورة بين لبنان و"حزب الله"، واعتبر أن لبنان هو الذي يعاني وأبناءه هم الذين يشرّدون ويقتلون.أراد حلاًّ ينهي الحرب ولا يأتي على حساب"حزب الله".إستقبل وزيرة الخارجية الأميريكية كوندوليزا رايس ليبلّغها أنه يرفض تدويل موضوع الحزب وسلاحه،وأصرّ على أن هذا الأمر شأنٌ لبنانيٌّ داخلي يحلّه أركان السلطة اللبنانية.وفي ظلّ الصواريخ الإسرائيلية التي تمطر القرى اللبنانية وطائرات ال"MK" التي تجوب الفضاء اللبناني من غير الوارد واللائق الحديث عن شرعية السلاح.وتحت وابل القذائف توجّه إلى روما لصياغة إتفاقٍ ينهي الحرب دون المساس بسيادة لبنان.تغلّب ببراعة عل من أتى يحرّض و يتشفّى ويزايد وهو لم يحارب يوماً لتحرير أرضه.وكان إتفاق النقاط السبع الذي عُدِّلتْ صياغته أكثر من مرّة،ليخرج بشكلٍ يرضي "حزب الله".وبعد 33 يوماً إنتهت الحرب،ووجد اللبنانيون أنفسهم وسط بلد بلا جسور و بلا منازل ومدارس وبلا خدمات!33 يوماً كانت كفيلة بإرجاع لبنان عشرات السنين إلى الوراء،وعادت مشاكل المهجّرين وإعادة بناء الوحدات السكنية والجسور وتأهيل الطرقات والمطار تطفو على السطح،بعدما كنّا قد تخطّينا هذه المشاكل بمراحل!وأطلق رئيس الوزراء ورشة عملٍ لا مثيل لها في التنظيم والدقة.فجعل مقر الهيئة العليا للإغاثة في السراي وأناط عملهم به شخصيّاً،وأشرف على عملية صرف التعويضات وشرح كيف تمّ توزيع المساعدات والمنح الدولية.ليُكافأ أوّلاً بإنسحاب الوزراء الشيعة من حكومته في التاسع من نوفمبر في محاولةٍ لنزع شرعية الحكومة وإسقاطها.وفي الحادي والعشرين إغتالوا وزير الصناعة بيار الجميّل. وعندما لم يحققوا مبتغاهم طوّقوا السراي بالخيم في الأوّل من ديسمبر حتى إستقالة الحكومة.حاصروه بالشوادر الرخيصة وصوّبوا الأضواء المزعجة على نوافذه وعلت أصوات الأغاني التافهة ليأرّقوا ليله.نعتوه بالعميل والمتصهين والمتأمرك، ورفعوا صورة كبيرة تجمعه و الوزيرة كوندوليزا رايس، ساخرين من إستقباله لها.نسوا أو تناسوا أنه إستقبلها لوقف الصواريخ التي كانت تنهال على رؤوسهم وأنه بكى من شدّة ألمه على أجساد الأطفال التي نخرتها القنابل العنقودية والمسمارية وعلى بلدٍ يراه يذوب جرّاء حربٍ غير مبررة وغير مجدية ولم ولن تؤدي سوى إلى الخراب والدمار.لأنه سبق وخبر ألم الإعتداءات الإسرائيلية ورأى كم عانى اللبنانيون وهو إبن صيدا التي نالت قسطاً وافراً من الهمجية الصهيونية. تغلّب على هذه النعوت والألفاظ،وكان دائماً يقول إنه معروف بانتمائه القومي والعربي و"أن عروبتنا ليست بالإرغام ولا نحتاج إلى فحص دمٍ يوم لتأكيد هويّتنا العربية وإخلاصنا لقضايانا".المقاومة ليست بالنسبة إليه التغرير بفتية بدلاً من حثّهم على العلم.هزؤا من دموعه،لأنهم يجهلون قول رسول الله تعالى"إنّا نعوذ بك من علمٍ لا ينفع وقلبٍ لا يخشع وعينٍ لا تدمع"!وهو ظلّ متماسكاً،لم نسمعه يوماً يتلفّظ بكلمة نابية كما عوّدنا كثيرون،مع أنهم -حسب رأيهم-يمثّلون غالبية الشعب اللبناني ومنتصرون وهم الغالبون دائماً!تحدّى بصمت، وتعالى بكبرياءٍ وتواضع لا مثيل لهما. وعمل بتفانٍ وأعطى أفضل ما يمكن في أحلك الظروف.جمع الوزراء حوله في السراي،واجتاز "معمودية"الدواليب الحارقة لينجز مؤتمر باريس3،الذي أتى ب 7 مليار دولار ليعمّر بيوت ويعيل من يطوّقه بالخيم والنراجيل.وظلّ هادئاً وإبتسامته الخجولة لا تفارق محياه.وكلّما سئل عن سرّ تماسكه بينما كثيرون تعرّضوا لربع ما عاناه وانهاروا،كان يجيب "والدي أوصاني بأن لا أعدّ إلى العشرة فقط قبل أي ردّة فعل،بل إلى المئة".ويضيف"من أجل أن تهضم الأشياء حقّاً يجب أن تمضغ كلّ شيء حتّى المياه.ووالدي عاش 104 سنين لا يغضب ولا ينفعل."وفي الثامن من أيّار عندما إجتاح حزب الله" بيروت و إنكشف المستور،كم كان من الصعب عليه أن يرى عاصمته تخوّن وبيوتها تُنتهك ومؤسسات رفيق عمره تُستباح.مع ذلك عرف كيف يحتضن الأزمة ويطوّقها ويأتي إلى البلاد برئيسٍ للجمهورية.وبينما إنعكست الأزمة المالية على الكثير من الدول،لم تؤثر على لبنان نتيجة السياسة التي ينتهجها مصرف لبنان وتحظر الرهونات العقارية.بل على العكس،زادت ودائع مصرف لبنان وتضاعفت أسعار العقارات.ولمن يتّهمه بالتبذير وهدر المال العام،فليسمع من الوزراء الذين أقاموا في السراي لسنة ونصف السنة كم أنّ فؤاد السنيورة مقتصد في المأكل والخدمات من شدّة حرصه على أموال الدولة.
وإثر إنتهاء الإنتخابات و مع إستقالة الحكومة وخلال حفل شكر لموظفي السراي،تجلّى كم أن فؤاد السنيورة شخصٌ كبير ومترفّع ويدرك أن العمل الصادق هو الوعد الصادق الذي لا يخطئ ولا بدّ أن يتجلّى. إذ قال"كنت أعمل لمن إعتصم ضدّ هذه الحكومة".
ويا ليت اليوم كلّ من رفع شعار"بدنا نسقّط الحكومة" يعيد ويراجع نفسه ليميّز بين من عمل فعلاً ليؤمّنَ له مستقبلاً مشرّفاً ومن إبتدع فكرة الدواليب ليدحرجه عليها، ومن يأَسَهُ حتّى يُغرق نفسه في المخدّرات وينسى الوعود "الصادقة" التي تبخّرت وتجلّى كم هي واهية كي لا نقول كاذبة.ومن جعله يُؤمّنُ على ماله عند من لا يُؤتَمَنْ.وأما ذاك الصغير الذي قال "إن دمّهم أصبح ثقيلاً على المدينة"،ثبت في السابع من حزيران الماضي أن"السنيورة زادها حلاوة". وفّقك الله يادولة الرئيس،وحقّاً الرجال تعرف عند الأزمات وأثبت عن جدارة أنك رجل الدولة ودولة الرجل.